ولد بلعمش : لا توجد سياسة ثقافية في موريتانيا (مقابلة)

قال الشاعر المهندس الشيخ ولد بلعمش إن الدولة الموريتانية تفتقد

إلى سياسة ثقافية واضحة المعالم، معتبرا في مقابلة مع السراج أن وزارة الثقافة الموريتانية هي الوحيدة في العالم التي لا تصدر مجلة ثقافية.

وطالب المهندس الشاعر ولد بلعمش بوزارة خاصة بالثقافة يديرها مثقفون متخصصون.

الشاعر ولد بلعمش تحدث للسراج عن مدارات وروافد التجربة الشعرية عنده، وعند بداياته الأدبية إضافة إلى رؤاه الشعرية وفلسلفته في الشأن الأدبي.

 

 

 

 

السراج : في البداية حدثنا كيف تتعايش الهندسة والشعر في نفس واحدة، وهل يتشاجران في شخصية الشيخ ولد بلعمش أم يتكاملان؟.

الشيخ بلعمش : الهندسة نظامٌ و منطق أما الشعر فإحساس مُغايِر و مُتخيَّل

و في الإنسان هذا و ذاك ، نحن بحاجة إليهما كحاجتنا للروح و الجسد.

مخطئ من اعتقد أن ذكاء الشاعر العلمي عاجز عن فهم أسرار المحركات و تحليل أعطال الآلات و إتقان منطق الرياضيات في حساب المردود و الضياعات ، تلك أشياء يمكن لأي عقل بشري استيعابها ، و لا يتساوى الناس في تلك القابلية فمنهم حاد الذكاء و منهم الذي يحتاج كدًّا و صبرا.

بمنطق ولد محمدي العلوي فإن الذكاء و حدَّةُ الفهم و الثقافة شروط اكتساب الشعر

و هكذا فإن اكتساب الهندسة لا يتطلب إلا شرطي الذكاء و حدَّة الفهم بينما تبقى الثقافة شرطا ثالثا للشعر.

بطبيعتي لا أحب المفاضلة بين الأشياء و لا تحديد أيها أصعب

و لكن بإمكاننا أن نجعل من أيٍّ كان مُهندسا إذا علمناه و أفهمناه كل ما درسه المهندسون ، طبعا سنبذل جهدا أكبر في حالة متوسطي الذكاء ، بينما لا يمكننا أن نحوِّل إنسانا غير موهوب إلى شاعر و لو كان بعضنا لبعض ظهيرا.

و أعتقد أن التاريخ القديم و الحديث مليء بعلميِّين شعراء ، و من أولئك مهندسون مثل علي محمود طه صاحب القصيدة المشهورة التي يقول فيها

أَخِي ، جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَـدَى    فَحقَّ الجِهَادُ ، وَحقَّ الفِـدَا

أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ العُرُوبَــةَمَجْدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّــؤْدَدَا ؟

كنا ذات مرة في تظاهرة شعرية عربية فاكتشفنا أن نسبة ربع المشاركين من المهندسين.

فلماذا لا يفهم البعض إمكانية أن تكون نسبة الربع من أعداد المهندسين شعراء ؟

ليس ثمة تناقض سببه المهنة في نفس الشاعر العامل ضمن قطاع بعيد عن الثقافة ، بل يمكن له إن ثابر و كافح أن يحقق نجاحا لا يقل عما حققه الآخرون.

ـ      السراج : متى التقطت أولى خيوط الوهج الشعري، حدثنا عن البدايات.

الشيخ بلعمش : نشأت في أسرة يسكنها شعور بالمسؤولية الثقافية ، فلقد بقيتْ من قرون الإزدهار الثقافي بمدينة شنقيط كتبٌ في صناديق أبي رحمه الله منها الذي التهمت الأرضة بعضه و منها ما يزال في حال مقبولة ، الوالد كان قاضيا للبلدة بالتزكية المجتمعية الموروثة و أصبح قاضيا مصلحا فيها منذو ظهور الدولة الحديثة ، كان لسلوكه المقتدي بأخلاق العرب و المسلمين الفاضلة و تمثله بأشعار العرب غداة كل موقف و أحاديثه المليئة أدبا و فكرا ، و كتبه التي حرص على شرائها كل ذهاب للمدينة من دواوين و أمالي وتاريخ و سير و فقه و أصول و تفاسير ، كان لكل ذلك أثر في نفس الطفل الذي يرى كل صباح جمال طبيعة امحيرث و يلحظ متلازمة أذان المصلى غير بعيد من مهجعه و انبلاج الفجر و هينمة العصافير و يرى الصغار أقرانه يحملون ألواحهم مبتدئين اليوم بحفظ ما تيسرمن القرآن

تلك أحسن بذرة نزرعها لنحصد شاعرا و لقد استحضرت بعض تلك اللحظات في إحدى قصائدي مؤخرا فكتبت

تذكرت حبوي في المصلي خلالهم *** فلي كلما اصطفوا وراءهم صف

و إذ أتهجى يغمر البشر جدتي *** و حين سفيرُ الصبح سورتُها الكهف

رحمها الله من جدة فلقد كانت عليمة بالسيرة النبوية و لقد اشتد عودي في اللغة بسرعة فأصبحت القارئ المُفضل إذا ما رامت قراءة السيرة تبركا و سلوى و تمثلا

كل تلك اللحظات هيأت أسباب شاعر كان من بداياته الطريفة ما لا ينسى ،من ذلك ما دونتُه ذات مرة فكتبت

أتذكر من بداياتي الشعرية زمن الإعدادية أبياتا كتبتُها ذات انزلاق في الشارع ذي الطين و أنا ذاهب إلى قسمي فما التفتُّ إلى ذلك و واصلت سعيي ، لكأنما أنا الوليد حين يقول

هل أنت إلا أصبع دميتْ *** و في سبيل الله ما لقيتْ

فما هو إلا أن دخلت القسم حتى اتخذوني سخريا فأطرقت و إذا بالأبيات الطفولية التالية تهجم علي فأطلب الإذن بإنشادها و يطرب الأستاذ و يمتلئ القسم تصفيقا كانت تلك أول مرة أجرب فيها لذة تفاعل الجمهور

عبرت بحار الطين كي أبلغ الذي *** أردت وما زودت نفسي من الصبر

فلما توسطت البحار بزورقي *** تداعت بحور الطين في المد والجزر

فغاصت إلى الأعماق رجلاي بالذي *** رأيت وما قد خضت من لجج البحر

إلى أن أتى الرحمن منه بعونه *** فخلَّصني مما جرى لي من الأمر

ولما أتيت القسم صرت ضحية *** لسخرية الأقوام من حيث لا أدري

ففوضت أمري للذي أنا عبده *** فذاك معيني في جميع الذي يجري

ـ      السراج: تعتبر اليوم من أكثر شعراء البلد انسيابية قلم، قد تكتب بشكل يومي، مع جودة رائقة في المنتج، برأيك ماهي روافد هذه التجربة وهذا العطاء.

الشيخ بلعمش : لا تهدأ دنيانا و لا تختفي بواعث الشعر، فمن الشعر المُعتَّقُ و هو الأرقى و الأبقى ، و منه المتدفق عفوا و هو الأصدق ، أعتقد أن حاجة النفس و الناس للشعر في بلد الشعر لا تنتهي.

أما جوابي على سؤالك فهو أنني رجل يهتم كثيرا بما أسميه العمر الثاني، وهو عمر يبدأ باختفاء الجسوم إلى غير رجعة حتى يوم القيام ، أو ما يمكن أن نسميه هاجس الحضور التاريخي ، ماذا سيكتبون عنا حينها و ماذا سيقولون ؟، لذلك لا أدع فكرة أو رأيا أو إحساسا إلا رسمتُه على الورق حتى أكون أمينا و حتى يعرف الآتون بعدي من أنا

قضايا مثل هذه لا يهتم بها الكثيرون ، لكن لم أتكلف يوما و لم أكتب شعرا لا يلح علي البوح به.

لقد تسرب هذا المعنى في عدة قصائد فمثلا أقول

بكيت لأني موقن بمصيرهم *** فشكرا لمن يبكي عليَّ مُقدَّما

و قولي:

سأبكى طوال العمر خَطْو حجيجهم *** فمن سوف يبكيني إذا نزل الحتف

إن هذا التفاعل الدائم لا يزيد المبدع شاعرية لكنه بالتأكيد يزيد مهارته و مرونته اللغوية

السراج : برأيك ألا يتحول الشعر إلى منشور سياسي عندما يحمل بعض القضايا الوطنية والدولية،؟

الشيخ بلعمش : ذلك أمر مرتبط بالشاعر لغة و تصويرا و ثقافة ، ألم يكن المتنبي شاهدا على كثير من الأحداث السياسية و المعارك الملتهبة في أيامه

ـ      السراج : عكس أغلب الدراسين في سوريا، تحمل نفسا معارضا للنظام السوري، بل يمكن اعتبارك أحد شعراء الثورة الشامية، مامرد هذا الموقف برأيك، أي مالذي يجعلك في هذه القضية مختلفا؟

 الشيخ بلعمش : قليلون هم الذين لم يصدقوا دعاية النظام السوري يوما ، و لقد صدقت دعايته ذات يوم في بدايتي هناك

، لكن بمجرد نسج صداقة مع خلصاء سوريين بدأت أفهم حقيقة ذلك النظام ، و بدأت أتريث ، فما هو إلا أن حصل اليقين لديَّ بظلمه و عدوانيته حتى رجعت القهقرى عن ذلك التصديق . و حين يسألني البعض عما سبق أقول فعلتها إذاً وأنا من الضالين

من عاش في سورية من الطلبة العرب اسألوه عن دلالة هذه الأسماء : الشعبة ، الفرع ، مفرزة الجامعة ، الموافقة الأمنية

لدي كثير من القصص الأليمة التي تعرض لها أصدقاء و مواطنون سوريون أعرفهم على أيدي القمع الفاشية ، و ربما إن وجدت الوقت يوما أكتب عن تلك الذكريات بالتفصيل

أما الطلاب الموريتانيون الذين درسوا في سورية فظن بعضهم خطأ أن وقوفه بجنب الثورة هو نكران لجميل سورية في تكوينه ، و الحقيقة أنهم مخطئون جدا ، فلا منة للنظام السوري عليهم ، إنما المنة لله أولا و الله تعالى يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) ، ثم المنة لأسرهم المحدودة الدخل في غالبها التي سهرت الليالي من أجلهم حتى حصلوا على الباكلوريا متفوقين ، ثم لحكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي أوفدتنا ضمن اتفاقية بين دولتين ، ثم للشعب السوري الطيب الذي أكرمنا و أحسن إلينا.

ثم لنفترض جدلا أن نظام الأسد صاحب منة علينا فهل ذلك يكفي للسكوت على ما اقترفته يداه من جرائم و آثام

و لنفترض أيضا أنه نظام ممانعة فهل يبيح له ذلك التنكيل بشعبه لمجرد أنه طالب بمسحة حرية بعد كبت دام أكثر من أربعين عاما

لقد قلت في إحدى قصائدي لسورية

وكيف نحرر الأوطان يوما

إذا الإنسان عبد مسترق ؟

يمنون الممانعة اعتدادا

وتلك طبيعة في الشام خلق

ولا شرف يبيح الظلم يوما

فبعض الحيف للحسنات محق

سأقول لك الحقيقة عن دراية و تبصر : إن حقيقة النظام السوري هي قمعيته و ظلمه ثم البحث عن مساحيق غرَّت البعض في الماضي لكن الربيع العربي أسقط قناع ذلك النظام و أظهر وجهه القبيح.

و مع ذلك فإن نسبة معتبرة من خريجي سوريا تقف مع الثورة السورية المباركة و نحن أقوى صوتا و أبلغ حجة و أشد تأثيرا من أولئك المؤيدين لطاغية الشام

ـ      السراج : أين الشيخ ولد بلعمش من السياسة، رغم أن في قصائدك نفسا معارضا؟

الشيخ بلعمش : لا أنتمي إلى أي حزب سياسي و لست من الأغلبية أو أحزاب المعارضة و أعتقد أن التعصب الإيديولوجي خطير على نظرة الشاعر الثاقبة و إحساسه الصادق.

لكن مع ذلك يحيرني الشاعر السلبي اتجاه قضايا وطنه و أمته

و أعتقد أن عدم التعبير شعريا عن هموم المواطن و آلامه و آماله هو تقصير في حمل أمانة الشعر

سأظل أكتب بصدق ما حييت، و لن أنافق للسلطان أيا كان اسمه ، غير أنني لن أظلمه و لن أتجنى عليه ،سيظل الشعر في واد و تظل ألاعيب السياسة في واد آخر

ـ      السراج : هل أنت راض عن الحالة الشعرية الراهنة في البلد، وهل تؤمن بمفهوم المجايلة، في الشعر الموريتاني.؟

الشيخ بلعمش : أنا متفائل و أتوقع للشعر مستقبلا في بلد المليون شاعر ، أومن بالمجايلة الزمنية و يمكن أن نفهم اختلاف اللغة الشعرية و تباين التصوير ، كما أسجل هنا اعتزازي بشعراء ما بعد الإستقلال فقد حملوا المشعل بحقه أحمدو عبد القادر و كابر هاشم و ناجي الإمام كما سأذكر و تلك عادتي في أغلب المقابلات الشاعر فاضل أمين رحمه الله فلعمري إنه لمن الشعراء الأفذاذ الذين ظُلموا و لقد كتبت له قصيدة في ذكراه فليت القائمين على الشأن الثقافي يهتمون بذلك.

و أعتقد أن الأستاذ الشاعر محمد الحافظ ولد احمدو ذخيرة و فخر لهذا البلد لم يُعطَ حقه

ـ      السراج : لو فرضنا أن أجبت بنعم، ماهي مميزات الجيل الراهن من الشعراء الموريتانيين.

الشيخ بلعمش : أعتقد أن الجيل المعاصر بدأ يتلمس خطاه إلى لغة شعرية أكثر خصوبة و إن كان الشعراء يتفاوتون في ذلك ، تلك نقطة قوة ، لكن أظن أن جيلنا مطالب بالإنتباه إلى سلامة لغته فكم سيجد المحظريون من مآخذ لو نظروا بتفحص نصوص هذا الجيل

ـ      السراج : يقل في منشورك الشعري الشعر الحر أو القصيدة النثرية، ماهو موقفك من هذين النمطين.

الشيخ بلعمش  ـ لم أكتب من شعر التفعلة إلا قليلا ، و السبب أنني من غير قرار أجدني عند الكتابة قد أبحرت في قصيدة ذات وزن خليلي ، و لقد أرسل إلي صديق لم ألتقه منذو عشر سنين عندما كتبت قصيدة من شعر التفعلة بعنوان عاصفة القلق و لامََني في ذلك ، و لم يقرأ تلك القصيدة الكثير من الناس ، إن ذلك يعني أن جمهور هذا البلد يكاد يتعصب للقصيدة الكلاسيكية في شكلها ، فعلينا أن نحاول التجديد في روح تلك القصيدة و نضخ فيها من أخيلة و روح عصرنا ، إنني منبهر بالقصيدة العراقية المعاصرة ذات الشكل العمودي التي يكتبها شباب مثلنا ، إنني أعتقد أننا مقبلون على تجربة كتلك ، و أعتقد أن الشاعر الشاب عثمان لي مثال جيد لتلك التجربة المأمولة ، أما القصيدة النثرية فلم أكتبها.

السراج :  ماهو تقييمك لوزارة الثقافة والرياضة لحد الآن؟

الشيخ بلعمش  : أعتقد أنها أول وزارة ثقافة في العالم لا تصدر عنها مجلة ثقافية ، فلتكن تلك المجلة فصلية أو سنوية إن لم تستطع الوزارة جعلها شهرية

أنا لا ألوم الوزارة فالمسألة أكبر من ذلك ، موريتانيا لم تتبنَّ أية سياسة ثقافية منذو الإستقلال و إلى الآن

و هنا أطالب أن نسارع في تأسيس جمعية للمؤرخين الموريتانيين تهدف إلى البحث في جوانب تاريخنا المختلفة فإن لهذا البلد تاريخا مضيئا لم يكتب عنه إلا القليل

ثم إن جعل الشباب و الرياضة و الثقافة في وزارة واحدة حمل أكبر من الطاقة ، أعتقد أن الثقافة تستحق وزارة خاصة بها على ألا يدير شؤونها إلا مثقفون مختصون

ـ      تذكر صورا ونماذج من أكثر المواقف التاليةالسراج :

1ـ   طرافة

2ـ   إحراجا

ج ـ أما الطرافة فهي أنَّنا كنا في تظاهرة شعرية في إحدى بلدان الخليج و كان معي شاعر موريتاني كبيرومشهور ، مرت فتاة فالتفت أحد الدكاترة العرب و قال لصاحبي انظر هذه القصيدة فأجاب صاحبنا دعها فإنها نبطية

و أما الإحراج فهو أنني كنت في إحدى المسابقات و اجتهدت على قصيدتي و عند التحكيم قال أحد النقاد عن بيت ظننتُه رائعا بأنه لم يلاحظ أو يفهم الصورة الشعرية فيه ، طبعا هذا حقه ، و لكنه أحرجني

و البيت هو

ملثم عن دخان العار قامته *** شعاعُ نورٍ تحدى الغيْمَ و الظُّللا

السراج  ماهي رسالتك إلى اتحاد الأدباء والكتاب على أعتاب مهرجانه السنوي؟

الشيخ بلعمش : أقول لهم وفقكم الله ، لقد بذلتم جهدا طيبا في الذي مضى فواصلوا على نفس الدرب