استفحال ظاهرة الزواج السريّ في موريتانيا

 

 

 

 

انتشرت ظاهرة الزواج السريّ بشكل كبير في المجتمع الموريتاني بمختلف مستوياته الاجتماعية والثقافية، وأصبحت محلّ اهتمام الباحثين الذين حذروا من تداعياتها وآثارها على تماسك المجتمع واستقرار الأسر، بعد ظهور حالات اختلاط الأنساب وتفكك الأسر وانتشار زواج القاصر في أوساط المعدمين الذين يقبلون بتزويج بناتهن سراً لتأمين حياة كريمة لهم.  

ويعرف الزواج السري أو "السرية"، كما يطلق عليه الموريتانيون، إقبالاً كبيراً في صفوف الشباب الذي وجد فيها حلاً للهروب من شبح العنوسة وفرصة للتمتع بالزواج دون تحمل مسؤوليته، ويلجأ الشباب الى الزواج السري خاصة من المطلقات والأرامل بسبب ضيق ذات اليد وكثرة متطلبات الزواج الرسمي وما تشترطه البنات من مهور تأثراً بالعرف الاجتماعي السائد في موريتانيا، والذي أدى الى ارتفاع قيمة المهور وأشعل كلفة الزواج ومتطلبات بيت الزوجية بشكل مبالغ فيه. ويرى الشباب أن الارتباط بالمطلقات والأرامل اللاتي يرغبن في إبقاء زواجهن سراً، أفضل من العبث والخطيئة أو الانتظار لسنوات والبحث عن فرصة للزواج الرسمي الباهظ التكاليف، وبالمقابل تلجأ فتيات في مقتبل العمر الى الزواج السري هرباً من الفقر وبحثاً عن معيل للأسرة، ويكون الارتباط برجل مقتدر فرصة مناسبة لحل المشاكل العائلية والمالية للأسرة، ويحرص الطرفان على إبقائه في نطاق ضيّق لا يتعدى محيط أسرة الفتاة.

سلبية المجتمع

ومع استفحال ظاهرة الزواج السري دقّ باحثون ناقوس الخطر محذرين من انتشارها وتساهل المجتمع معها واستسلام الشباب للظروف التي تدفعهم الى الإقبال على الزواج بشكل سريّ، وعلى رأسها البطالة والفقر والعنوسة وانتشار الأمية وارتفاع تكاليف المعيشة. ويعتبر الباحث الاجتماعي زيدان ولد آبه أن سلبية المجتمع وضعف القوانين التي تحمي الأسرة عاملان رئيسيان في انتشار ظاهرة الزواج السري وإقبال الناس من مستويات اجتماعية مختلفة عليها، ويرى أن أخطر ما في الموضوع هو التبرير الذي تسوقه الغالبية لتشريع الزواج السري باعتباره حلاً لمشكلة العنوسة يتوافق مع الشريعة ويحمي الشباب من الوقوع في المعصية، ويقول "إن إحاطة الزواج السري بمجموعة من العوامل والأسباب لتبريره خطير وله تداعيات كارثية على المجتمع كما أنه يسيء لمؤسسة الزواج ويسفه ويقتل أحلام الشباب ونضال وتضحية الجيل الحالي من أجل تكوين أسرة والمحافظ عليها". ويرى الباحث أن قبول المرأة بالزواج سراً يعد لغزاً بالنسبة لعلماء الاجتماع الذين لطالما اعتبروا أن هذا النوع من الارتباط مفروض من قبل الرجال ومرفوض عند النساء، ويشير الى أن نسبة كبيرة من الفتيات والنساء يقبلن بالزواج السري لأسباب مختلفة من أهمها ضيق ذات اليد والعنوسة والخوف من فقدان حضانة الأطفال بالنسبة للمطلقات، ويضيف "تجدن بعض النسوة الراغبات في الحلال عبر (السرية)، كما يسميها الموريتانيون، حلاً لمشاكلهن وفرصة للحصول على زوج دون الالتزام بإطار وشروط مؤسسة الزواج، فبينما يفضل الشباب من الرجال المطلقة والأرملة لأنها لا تشترط إنجاب أطفال والحصول على مهر كبير، ترتبط فتيات في مقتل العمر برجال ميسورين وتقبلن بالزواج السري لتحسين وضعيتهن المعيشية". ويوضح أن الوجه القبيح لهذه المسألة يكمن في استغلال بعض العوائل للفتيات وتزويجهن دون رغبتهن وتهديد مستقبلهن بمغامرة الزواج السري، كما أن ما قد ينتج عن هذا الزواج من أطفال يكونون عرضة للإهمال والضياع فغالباً ما يعيش الأطفال في كنف أمهاتهم بعيداً عن الحياة الأسرية، نتيجة تفكك الأسرة وفقدان حسّ المسؤولية عند الرجال.

لا سابقة ولا لاحقة

ولا يمنع القانون الموريتاني التعدد لكنه يمنح الطلاق للزوجة الأولى إذا اشترطت في عقد زواجها عدم الزواج عليها، حيث يمنع هذا الشرط الزوج من الاقتران بأخرى إلا إذا طلق زوجته الأولى، وهو الشرط المعروف بين الموريتانيين بـ"لا سابقة ولا لاحقة". ولا يزال المجتمع الموريتاني الذي تحكمه تقاليد وعادات القبيلة تعطي للمرأة الكثير من الحقوق المادية والاجتماعية، يرفض الزواج الثاني ويعتبره انتقاصاً من حق المرأة، وقد أظهرت دراسة حديثة أن الزواج الثاني في موريتانيا يؤدي الى ارتفاع حالات الطلاق والتفكك الأسري، حيث تحتل موريتانيا المرتبة الأولى في العالم العربي من حيث نسبة الطلاق، والتي تقدرها كتابة الدولة لشؤون المرأة بـ40% بين الزيجات في الريف، و37% في المدينة، بينما تقدرها منظمات أهلية مستقلة بـ42% على المستوى الوطني. وتتحول حياة بعض الأسر الى جحيم حين تعلم الزوجة الأولى بارتباط زوجها بأخرى، حيث تهدد مغامرة الزواج السري استقرار الأسرة وتماسكها وتشكل في أغلب الأحيان بداية انهيار العلاقة الزوجية، وحين تقبل الزوجة الأولى بالوضع مرغمة تحت ضغط الظروف العائلية ومصلح الأطفال، فهي تلجأ للانتقام من الزوج لإرضاء غرورها وتحقيق طلبتها قبل الزوجة الأخرى. ويعاني بعض الأزواج من انتقام الزوجة الأولى وكثرة طلباتها وتهديدها المتواصل بالانفصال، ما يجبر الزوج على دفع أمواله لتلبية طلباتها ومن أجل التخلص من هذا التهديد والمحافظة على استقرار الأسرة. وتبتكر الزوجات طرقاً غريبة للانتقام من الأزواج، حيث تلجأ الموريتانيات لطرق وأساليب كثيرة للانتقام من الزوج مثل الإسراف وتبذير ميزانية المنزل وافتعال المشاكل مع أهل الزوج أو مع الجيران ومنع الزوج من التمتع بحقوقه الزوجية وتحويل الخلافات البسيطة الى مشاكل كبيرة، وتتصاعد حدة انتقام الزوجة حين يبدي الزوج اهتماماً كبيراً للزوجة الأخرى، حيث إنها تستعمل وسائل انتقام أشد حدة وعنفاً مثل منعه من رؤية الأطفال أو تحريضهم ضده ووضع شروط تعجيزية لاستمرار العلاقة الزوجية، وغالباً ما تتسبب الزيجات السرية في انفصال الزوجين وتفكك الأسرة.

تغيير عادات الزواج

ويقول الشاب أحمدو ولد العتيق، الذي أقدم مرتين على مغامرة الزواج السري، إن تزايد الظاهرة مرتبط أساساً بمشكل البطالة والدخل الهزيل وغلاء المعيشة وعدم التوفر على الإمكانيات المادية لفتح بيت الزوجية وصعوبة الحصول على سكن، ما يدفع الشباب الى الإقدام على الزواج السري كحل مؤقت للأزمة التي يعيشونها. ويرفض احمدو القول إن السبب الرئيسي لإخفاء الزواج السري هو أنه زواج مصلحة محكوم عليه منذ البداية بالفشل، وعن مزايا هذا النوع من الزيجات بنظر المقبلين عليه يقول احمدو "الرجل غير ملزم بنفقات الزواج الكثيرة ويمكنه تدبّر أمره في حدود إمكانياته المادية، كما أنه غير مُلزم بالأعراف الاجتماعية والتقاليد التي يحرص عليها الزوجين عادة، أما تبعات الانفصال فهي شبه معدومة حيث يمكن للزوجين الانفصال بسهولة". ويطالب الباحثون وزارة الأسرة ببحث ظاهرة الزواج السري والتركيز على أسباب انتشارها، ويدعون الى ضرورة إصلاح وتغيير عادات الزواج، وخلق مؤسسات لتزويج الشباب ومحاربة الطلاق وتوعية المجتمع بخطورة ظاهرة الزواج السري، بينما ينادي الفقهاء ورجال الدين بتيسير الزواج ووضع حد لارتفاع المهور وكل ما من شأنه إعالة الشباب الحالم بدخول عشّ الزوجية