من إجل مجتمع إسلامي سلمي*/ حنفي ولد دهاه

السادة الحضور

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

انقسم العالم الإسلامي، منذ أن اصطدمت مدافع نابليون بالحضارة الإسلامية في دمياط، في القرن السابع عشر، إلى معسكرين: متغربين انسلخوا من إهاب هويتهم الحضارية و الثقافية، و متجذرين يعضون بالنواجذ على ثقافة الجمود و التحجر، مما جعل العالم الإسلامي أمام أزمة مركبة، تتحول فيها المواقف الحديّة إلى صراع دموي، تؤجج أُواره عوامل ومصالح  داخلية و خارجية..  تجعل التكفير يصادر التفكير، و الدفاع عن الثغور بالقتال وليس بالعلم و العمران و إرساء ثقافة الاختلاف.

إن بث ثقافة و ممارسة الأمن و السلام هو من دعائم تحقيق الحياة الكريمة، على هذا الكوكب الذي يجمع بني الإنسان، من أفناء شعوبه و نوازع قبائله و شتات أعراقه، وتباين  أديانه و اختلاف مداركه الفكرية و العقدية.

و قد سعى الإنسان خلال رحلته الأزلية للبحث عن تحقيق الرفاه المادي و السلام الروحي، اللذين لا يتأتّى تحقيقهما بغير بسط الأمن و السلام، و هو أيضا ما دأب الإسلام على تكريسه في كل أدبيات مجتمعه الفاضل، حيث ورد في حديث إبي الدرداء رضي الله عنه قوله عليه الصلاة و السلام إن “من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”.

فقد كان السلام مطلبا عظيما، و مقصداً عميماً،  يبسط جناح السكينة و الرحمة و التآلف على كل  البسيطة، معتبرا جوهر الإنسانية و مراعياً قيمتها، و جاعلاً منها مداراً لجلب المصالح و درء المفاسد، فلا تفاوت في الحق الطبيعي في السلام  و السلامة  بعرق أو وطن أو دين أو مذهب،  فقد خاطب الله تبارك و تعالي نبيه الرحمةَ المُهداةَ بقوله “و ما أرسلناك إلا  رحمة للعالمين”، و العالمون جمع عالَم وهو لما سوى الله من المخلوقات: إنسٍ أو جنٍ أو ملائكة.

و عن إبي هريرة رضي الله عنه قيل: يا رسول الله، ادعُ على  المشركين، فقال: إني لم أُبعث لعّاناً و إنما بعثت رحمة..  كما رفض عليه الصلاة و السلام أن يطبق الأخشبين على قومه الذين كذبوه و آذوه.

ولقد حرص الإسلام على بسط الأمن و السلام ..  فقال تعالى “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة”، و في حديث البخاري “و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”، وفي حديث مسلم “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، و لا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلُّكم على شيء إذا أنتم فعلتموه تحاببتم: افشوا السلام بينكم”.

وقد تداخل الإسلام و السلام في لحمة و نسيج واحد، وامتزجا امتزاجا كاملا،  فزيادة على الاشتقاق اللغوي، ففي كل صلاة من الصلوات الخمس التي يناجي فيها المسلم ربه، يتأمل المسلم كلمة “السلام” لفظا و معنى.. كما أن السلام هو التحية التي يبادر بها المسلم كل من يلقاه.. وقد اعتبر فقهاء المسلمين أن البدء بالسلام الذي هو من المناديب أفضل من رد السلام الذي هو من الواجبات..   ثم أن السلام هو من اسماء الله الحسنى، كما أن “دار السلام” اسم من أسماء الجنة التي هي مثوى المتقين… و هكذا وردت كلمة “السلام” و مشتقاتها في القرءان الكريم  إحدى و أربعين مرة، في حين لم يتجاوز ورود كلمة “حرب” في القراءان ثلاث مرات، أما كلمة “السيف” فلا ورود لها البتةَ في الذكر الحكيم.

و لعل التكريم المطلق و التعظيم المجرد لذات الإنسان يقتضى، في هذه الفترة التي  اختلط فيها مفهوم “الجهاد” على العامة، مراجعة فريضته بمدلوله القتالي، حين يتعلق الأمر بقتل الإبرياء واستهدافهم في أنفسهم و أموالهم و أعراضهم، وذلك اتقاء فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة.. مثلما كان من مقاصد الشارع في تحريم الخمر سعيها لإفساد العقول، التي أمر الله بصيانتها، تماما مثلما أمر بصون الأرواح البريئة و النفوس الزكية.. و في ذلك يقول الشاعر:

لا تنــل من عظيـم قـدر و إن كنـــــــــــتَ مُشاراً إليك بالتعظيم
فالجـــــليل العظيم يصغر قدراً   بالتجري على الجليل العظيم
ولع الخمــــر بالعقول رمى الخمــــــــــــر بتنجيسها و بالتحريم

فالقاعدة الأصولية تقرر أن “المسلم و الكافر في مصاب الدنيا سواء”، فما قولك بالمصيبة التي تُهلِك المسلمَ و أخاه الإنسانَ غيرَ المسلم، وتشرّدهم و تقذف بهم في بلاد الله الواسعة نَوىً شُطُراً، شاحطي الديار عن الأهل و الأوطان و الإحبة، فيشقى أطفالهم و تمتهن نساءهم، و تهان إنسانيتهم.. و ترسم معاناتهم من صور الشقاء و العذاب ما جلّ الإسلام، بسموه و قيّمه، أن يكون سبباً فيه أو وسيلة إليه.

و حتى لو افترضنا جدلاً  صدق دعوى الغلاة و المتطرفين من أن ما يصيب المسلمين في بلادهم من غزو الأجنبي قد يكون مدعاةً للقتال، فقد يكون في القوة و السيطرة الكونية للآخر، ما يجعل من مواجهته و الأمة بهذا الخَور و الوهن  إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة.. وحتى على اعتبار أن سبب نزول الآية “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” هو نية الأنصار التخلف عن الغزو  مع النبي صلى الله عليه وسلم و الإقامة على الأموال و إصلاحها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..

ثم إنه “إذا كانت المطالبة بالحق حقاً،  فإن البحث عن السلم أحق، و هو بحث قد لا يغير أصل الدعوى، ولكنه سيغير وسائلها”.. و قد تواتر من الآيات و الآثار الداعية الى جعل السلام قولا وعملا وسلوكا للمسلم ما استنبط منه العلماء أن السلام مقدم على طلب الحق، و أن السلم أرجح من الحقوق الجزئية، و الفرصة التي يمنحها السلم للمصالح الدينية و الدنيوية أنجع من الفرص التي تعد بها الحرب، و المفاسد المترتبة على التقاتل تفوق تلك المترتبةَ على التنازل.

ثم أن الجهاد، على افتراض توفرِّ أسبابه و مقتضياته، لا ينحصر في حمل السلاح و إنما يكون بالكلمة الطيبة و بالجدال بالتي هي أحسن، و تقديم النموذج الذي يحتذى به في الأخلاق و القيّم الفاضلة..  فكما قال شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم انياس رضي الله عنه:

أروم رضــــى الباري لنصـرة دينه     و أبرز للجيــــل الجديد مثالا
ضعيف عليـــــــل شائب متحمس      لينصـــــر ديناً، لا يروم قتالا
فإن النبي الهاشمي الدهرَ ما غزا      بلى صدّ عدوانا، وردّ ضلالا

لقد شهدت ثقافة العنف الفكري و الجسدي، في العالم الإسلامي، تطوراً غير مسبوق، تجسد، حسب رأي الخبراء و الباحثين، في أبعاد خمسة:

أولها: البعد النوعي المتمثل في درجة العنف التي لم تستثنِ أي نوع من الأسلحة، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل.

ثانيها: البعد المكاني المتمثل في الاتساع و الإنتشار، حيث يشمل رقعة واسعة من البلاد العربية و الإسلامية، و يرشح للامتداد إلى مناطق أخرى،  فحين يمعن المرء نظره إلى خريطة العنف الكونية وجغرافيا الأزمات، ستتراءى له ألسنة اللهب و هي تجعل من العراق و ليبيا و لبنان دولاً فاشلة، و من مصر بلدا على حافة الانفجار، و من سوريا و اليمن أشلاء تتناوشها ضواري الحرب و تؤذن حُبالى أيامها بمخاض عسير، و من جنوب الجزائر وشمال مالي و حدودها مع موريتانيا منطقة يتحالف فيها الإرهاب الديني بعصابات الجريمة المنظمة..   أما نيجيريا و النيجر فتعيث فيها عصابات  بوكو حرام فساداً.. كما انتعشت دولة داعش بعد إخفاق مشروع العالم الإسلامي في مواكبة قيم الحداثة.

أما ثالثها: فيتعلق بالبعد الزمني، حيث لا يلوح أفق زمني منظور لنهاية هذا الصراع الدموي، الذي لا تزيده الأيام إلا ضراوة و احتداماً.

أما رابع الأبعاد فهو البعد النفسي و الفكري، الذي يفرز ثقافة التطرف و التعصب و التحريض، فتنتشر فتاوى التكفير و التضليل و التبديع و التفسيق، فتستباح بها دماءٌ و تهتك أعراض و تخفَر ذمم، و يُدعى لجهاد في غير محله، و ينهى عن منكر بما يؤدي لما هو أنكر.

حيث يعلو أدعياء العلم المنابر ، فيقضون في النوازل و يتصدرون للفُتيا، التي قال القرافي إنها إخبار عن الله تعالى، بغير علم، و يحكمون بغير عدل، فيَضلِون ويُضلّون.. فلا هم يفرقون من النصوص بين مطلق و مقيد و لا بين خاص و عام و لاحقيقة و مجاز، و لا تفسير أو تأويل.. و لا هم يفقهون قواعد اللغة العربية، أو يبرَعون في علم الحديث.. وقد صدق العلامة الشنقيطي محمد الحسن ولد أحمد الخديم حين قال:

إني أراكم يا هداة العصر    بقــــــــــرية و كــــل مـــــصر
على الحديث كلكم وقد فسد    لسانه أجـرأ من خاصي الأسد
هلا قــــــرأتم قبل ذا المروم    ألفـــية أو ابــن آجــــــــــــروم
خوض المعارك و أنتــم عزلُ     هل هو جــــد عندكم أم هزل

والتكفير الذي يعرّفه الفقهاء بأنه  “إصدار حكم شرعي على شخص أو جماعة بالكفر سواء كان أصليا أم حادثا” أصبح عامل تحريض و إثارة فتن، وقد قال تعالي “و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا”.

وفي صحيح الآثار و الأخبار من النهي و الوعيد لمن يكفر غيره ما يطول ذكره، و قد روى البخاري و أحمد “من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله”. لما يستلزم ذلك من تحريض المتطرفين على سفك دمه.

و لا يجوز استسهال الحكم بالتفكير، كما هو حال غلاة المسلمين و متطرفيهم، فكما قال الإمام السبكي “ما دام الإنسان يعتقد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فتكفيره صعب”.

أما البعد الخامس، فيتعلق بالصورة المشوهة التي أصبحت ترتبط عالميا بالإسلام، باعتباره دين دم و دمار، حتى أن بعض المتطرفين اقترح محاكمة الإسلام و أهله  بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

و في صدد البحث عن أنجع الطرق في معالجة ظاهرة الإرهاب و العنف الديني تتأكد المقاربة الثقافية المبنية على تقديم النموذج الإسلامي الأصيل في ترسيخ ثقافة الحوار و احترام الاختلاف الفكري، و  التباين في الرؤى، و قبول “الآخر” و التعامل المزدوج معه من منطلق إنساني، يلجم المطامح و المصالح بلجام الحكمة و الإخاء،  لا يجعل من الحرب وسيلة لفرض العقائد أو انتزاع الحقوق، ولا حتى وجها آخر لتطبيق السياسة، كما قال  كونفوشيوس، و إنما كما ورد في ديباجة ميثاق منظمة اليونسكو “إذا كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن نبني حصون السلام” ، و كما قال العلامة  الشيخ عبد الله ولد بيه “لنشن حربا على الحرب لتكون النتيجة سلماً على سلم”.

و من هذا المنطلق يجب تصحيح مفهوم “الجهاد” الذي ليس مرادفا للقتال و إن كان بينهما نسبة عموم وخصوص من وجه، فليس كل جهاد قتالا و ليس كل قتال جهادا. كما ينبغي أيضا مراجعة و تصحيح مفهوم “الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر” الذي  يلجأ المتطرفون لممارسة العنف الجسدي في تغيير ما يعتبرونه منكرا، و قد قسّم ابن القيم  في كتابه “إعلام الموقعين” إنكار المنكر إلى أربع درجات:

1- أن يزول و يخلفه ضده
2- أن يقلّ و إن لم يزل بجملته
3- أن يخلفه ماهو مثله.
4- أن يخلفه ماهو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، و الثالثة موضع اجتهاد، و الرابعة محرمة

و هكذا يجب تصحيح مفهوم “طاعة السلطان”، ليناسب في مدلوله امتثال القانون، باعتباره ـ حسب تعريف إيمانويل كانت ـ “الفعل العادل الذي يسمح بتعايش حرية كل فرد مع حرية الفرد الآخر، حسب قانون كليّ، بحيث تسمح قاعدته المعيارية بهذا التعايش”،  مما يساعد  في تجنب الفتن و ضمان السلم و الاستقرار، وليس الاستسلام المطلق للظلم و الجور.

و هكذا أيضا فإن مفهوم الولاء والبراء من المفاهيم  التي ينبغي تصحيحها في هذا الصدد، فهو من  المفاهيم التكفيرية ، التي سُفكت بموجبها دماء كثيرة “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين”.. ولا نطيل هنا بتفسيم الفخر الرازي في تفسيره  و ابن العربي المالكي في أحكامه لمراتب الولاء، غير أن الخلاصة أنه ولاء للدين و بالتالي فهو ولاء للوطن و للإنسان.

و  لا يفوتني في نهاية حديثي أن أؤكد أن المقاربة الأمنية التي اعتمدتها بعض الدول الإسلامية في استئصال شافة الإرهاب و التطرف الديني، كانت لها نتائج عكسية، و قد أسفرت عن عنف و عنف مضاد، و عن حرب سجال تدور رحاها على جميع الأطراف.. فلن تستقيم مكافحة الإرهاب و العنف الديني بغير مقاربة  ذات حلقات مترابطة، تمزج الأمني بالديني و الاجتماعي و الاقتصادي، ففي الوقت الذي يضلع العلماء المستنيرون بدورهم في تزكية النفوس و تربيتها على سماحة الإسلام و مسالمته، يكون على الحكومات أن تضع استراتيجيات جامعةً مانعةً، للحد من البطالة و لدمج الشباب في الحياة النشطة، و النأي بهم عن الوقوع في براثن الفراغ:

إن الشباب و الفراغ و الجدة       مفسدة للمرء أي مفسدة

فالواقع أنه لا أمل بدون استتاب الأمن في تنمية الاقتصاد، كما أنه لا أمل في تحقيق الأمن، ما لم يزدهر اقتصاد، تُسد فيه خلة الشباب و يقضى فيها على جهله و بطالته.

كما تنبغي مشاركة الشباب في صناعة مستقبلهم، من خلال إتاحة الفرصة لهم للتعبير عن طموحاتهم و العمل على تحقيقها، و منحهم مناخاً تتكافؤ فيه الفرص، و تُرعى فيه المواهب و تُشجع الطاقات. ففي الأقتصار على المقاربة الأمنية من الشطط ما يهدد تطبيق الديمقراطية و قيم حقوق الإنسان.. حيث أن تعميم النموذج الديمقراطي الليبرالي باعتبارها ديمقراطيات مسالمة، تستوعب الخلاف و الاختلاف، في جو من الاحترام و قبول الأخر، قد يكون الطريق الأنجع لتحقيق الطمأنينة، حسب التعبير الإسلامي و “السلام الأبدي” (حسب تعبير كانت) أو اتحاد الأرواح، حسب تعبير سبينوزا، و الذي هو مقصد إسلامي و إنساني.

و في النهاية نمد أكف الضراعة والتذلل لله تبارك و تعالى أن يوفق الخلائق للأمن و التسامح والتعايش السلمي و بث روح الوئام و المحبة، و أن يحفظ الأمة و أن يحفظ الإنسان.

 

* ورقة مقدمة في مؤتمر السلام العالمي بدكار