تهافت النخب الخليجية والعربية

قبل عقود من الآن أصدر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي كتاباً مهمّاً بعنوان: "وعاظ السلاطين" حلل فيه فكر ودور النخب الدينية والأكاديمية والثقافية في تسويغ حكم المستبدين والظالمين، لكنّه لو قدّر لعلي الوردي أن يطل علينا من دنياه الأخرى، ويرى ما يجري على الأرض العربية من تجليات انحطاط وتهافت النخب الخليجية والعربية لرأى العجب العجاب.

تشهد منطقة الخليج والعرب عموماً اليوم حرباً نفسية وسياسية هي امتداد للحرب الفعلية في الجوار، وخصوصاً اليمن، ومن بعده العراق وسوريا، فلأول مرة بعد حرب اليمن في الستينيات تشهد اليمن مرة أخرى حرباً عربية ذات امتدادات إقليمية، وكأنه قدر لليمن أن يكون ساحة تصفية الحسابات العربية والإقليمية..

خلفيات الحرب الداخلية والخارجية على الأرض اليمنية أضحت معروفة، وفظائع هذه الحرب نتابعها ليل نهار وعبر شاشات التلفزة والكمبيوتر والهاتف النقال، وهي شاخصة أمامنا في صحونا ومنامنا. وما يفاقم كارثة حرب اليمن، هو أنها تجري في واحد من أكثر البلدان العربية تخلفاً في بنيته وجاهزيته لمواجهة الطوارئ حتى في الأيام العادية، فما بالك بحالة الحرب؛ كما أنها مترافقة مع حصار بحري وجوي وبري، وخرق لجميع قواعد الحرب، واتفاقيات جنيف الأربع المتعلقة بحماية المدنيين في الحروب.

 

لكن وعلى الجبهة السياسية والإعلاميّة والثقافية وبموازاة الحرب العسكرية، تجري أيضاً حرب أخرى، تقصف العقول والمشاعر العربية. هذه الحرب تستهدف المواطن العربي والخليجي تحديدًا، وتعمل على شيطنة المتحاربين، بل وتكفيرهم تبعاً لهذا الطرف أو ذاك. على الجانب الخليجي وتحالفاته، يجرى تصوير الحوثيين كمرتدين أو خوارج العصر، وعملاء لإيران، وجزء من مخطط توسعي إيراني لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية في بلاد العرب وإلى جانب ذلك تجري شيطنة حليفهم المخلوع علي عبدالله صالح وهو لا يحتاج إلى شيطنة أصلاً، فالشيطان ذاته ملاك أمامه. وبالطبع هذا ليس دفاعا عن حماقات الحوثيين وتآمر علي صالح، فقد سبق أن كتبت عن ذلك..

 

ويتطوّع مثقفون إيرانيون وعرب في تعزيز هذه الأطروحة حيث خرج أحدهم ويتحدث بعربية طليقة ليزف لنا البشارة "بأنّ عبدالملك الحوثي هو سيد اليمن وبالتالي سيد الجزيرة العربية، وأنّ محور الممانعة (إقرأ إيران) يمتد من الحسكة في سورية شمالا إلى باب المندب في اليمن جنوباً، ومن طهران شرقاً إلى بيروت غرباً" وقد تلقّف مروجون من الطرفين مثل هذه الأطروحات لتأكيد أطروحاتهم.

 

من الجانب الآخر، فإنّ التحالف اليمني الحوثي - صالح، وحلفاءه العرب والإقليميين الذين يطلقون على أنفسهم "جبهة الممانعة"، يصورون حرب اليمن بأنّها كمعركة كربلاء، ما بين أحفاد الحسين وأحفاد يزيد، وأنّ الله معهم، ولذلك فالحوثيون سينصرون حتماً، فيما يجري تصوير السعودية بأنّها مركز الشرور في المنطقة، وأنّ الأنظمة الخليجية، بل الخليج بكل مكوناته هم وراء كل هزائم العرب، بدءاً بفلسطين إلى آخر القائمة. بل واتخذت بعض الأطروحات طابعا عنصريا، بتصوير أهل الخليج كمتخلّفين وبدائيين.

 

لقد تحوّل العديد من هؤلاء إلى منظرين واستراتيجيين، يفتون في سيرة الحرب، والمعارك وتطوراتها ومستقبلها وكان الواحد منهم المارشال مونتجمري، فيما تحول آخرون إلى علماء اجتماع وسياسة، يفتون في أمور اليمن بتعقيداتها والخليج بتنوعاته، وهكذا احتل هؤلاء الشاشات والفضائيات والشبكة العنكبوتية، وفي كل ما يقولون، فهو لتبرير موقف سبق مع هذا الطرف أو ذاك..

 

الحرب كريهة، وخصوصًا عندما تكون بين أبناء الوطن الواحد أو الأشقاء كما هي حرب اليمن، ولن يخرج منها أحد منتصرا، بل إنّه إلى جانب الدمار المادي فإنّ الدمار النفسي سواء فيما بين أبناء اليمن أو أبناء الجزيرة العربية والعرب عامة، هو الأعمق الأخطر، إذ سيحفر بذور الكراهية والحقد والانقسام، فيما يجرى توظيف التاريخ العربي والإسلامي من الاحتراب والانقسامات بدءاً من سقيفة بني ساعدة حتى اليوم، وتوظيف الخلافات المذهبية، والسياسية وغيرها،

 

وفي ذات الوقت تفرض الولاءات الخارجة على الأمة العربية ذاتها في حرب لاعقلانية، وفي ظل شلل الجامعة العربية وغيبوبتها..

 

المطلوب من مثقفي الخليج والعرب عدم الانسياق وراء المصالح الذاتية والقوى والتحالفات السياسية، المشتبكة في حرب اليمن، بل إنّ واجبهم هو التبصير بمخاطر وتركات هذه الحرب، والعمل على إطفاء نيرانها، وإغاثة الشعب اليمني المنكوب، وإعادة الحوار اليمني الوطني إلى السكة لاستكمال ما تمّ انجازه، وعبور اليمن المرحلة الانتقالية الصعبة، لإرساء نظام حكم ديمقراطي تعددي توافقي يستوعب جميع مكونات اليمن السياسية والقبلية والمذهبية والمناطقية، وأنّ يحظى ذلك بدعم مجلس التعاون الخليجي أولا، ودول الإقليم والعرب والمجتمع الدولي، فحرب اليمن ستطول بشرورها المحيط. واستقرار اليمن وازدهاره من مصلحة الجميع، وليحيّد اليمن من الصراعات الإقليمية والدولية، وليسهم مجلس التعاون الخليجي في إنهاض اليمن سياسيّاً واقتصاديّاً، فلها كل المصلحة في ذلك.