2014عام النصرة / عبد الفتاح ولد اعبيدن

أجل، من المرجح أن تستمر وتتنوع الاحتجاجات على المقال المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أقدم عليه ذلك المغرور بحرية التعبير، خصوصا أيام الجمعة، التي تحولت إلى مناسبات ملائمة للحشد

اِقرأ المزيد...

قل ولا تقل / إسلمو ولد سيدي أحمد

قل: فِي الْغُرْفَةِ ثَلَاثَةُ سُرُرٍ، أو: ثلاثة أَسِرَّةٍ(الواحد: سَرِيرٌ). وقد ورد الجمع الأول في القرآن الكريم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) 47/الحجر. وورد الجمع الثاني في المُعْجَمَات (المعاجم) اللغوية، وغيرها من المراجع المتخصصة.

اِقرأ المزيد...

نحن والمسار الحانوتيّ (3) : الحكم القبلي / د.الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا

لقد أهداني مشكورا أخي و خليلي الشاعر و الكاتب الفذ و الأستاذ الموسوعي  بدي ولد أبنو كتابه "أودية العطش". أثار انتباهي لاحقا تقرير أعدته صحيفة "القدس العربي" حول هذه الرواية باعتبارها رواية تنبأت بالربيع العربي،

 الشيء الذي لم ينتبه له مؤطرو "أدب الربيع العربي". في هذه الرواية التي جاءت في شكل قصيدة ممهورة بكثير من البلاغة والتصوير الموحي، نرى صورة جبارة فنيا وشعريا وروائيا لذلك الحاكم الذي انتقل من صفة "الشخص التافه" بعد أن "تأله" ثم أُلِه" ليتهافت شعبه على تنفيذ أوامره بشرب الرمال باعتبارها إنجازا وفق "التعليمات السامية" لصاحب الكرسي.

إننا نعيش تماما، هنا في موريتانيا، "حكم أودية العطش"، وعقلية سلطة أودية العطش، ومن ثم ليس على الموريتانيين، بعد فقدانهم أبسط مقومات حياة الدولة، سوى أن يستسلموا ذاعنين و يشربوا رمال الديمقراطية لعل ذلك يسد خواء عميقا في بطون منظومة حكم الفرد.و أيا كانت الصور التي يظهر بها ذلك الحكم الفردي، فهو لن يكون سوى تعبير عن شرخ عميق في كيان الدولة، نفس الشرخ الذي عمقناه جميعا ومن مختلف المشارب والاتجاهات، عن سوء أو حسن نية، حتى غدا فوهة تبتلع كل المطامح البسيطة لإنشاء دولة، ولو ذات سيادة اسمية.

 

لماذا نفشل فيما نجح فيه الجيران محدودو الإمكانات على جميع الصعد. في السنغال وغامبيا ومالي وبنين توجد مؤسسات.. وفي موريتانيا يوجد أفراد.

هذه كارثة بكل المقاييس لا يمكن تحاشي سلبيتها على المدى القريب، أحرى المستقبل في الأمد المنظور.

 

أخشى أننا، رغم كل الدول الذرية والمتوسطة، نحن آخر دولة أفراد بقيت في هذا "العالم المتوحش" تنافسيا ومصلحيا.

 

من السهل الآن تشخيص هذه الحالة، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الأنظمة الموريتانية.. وذلك بسبب تدهور مستوى "الفردية" التي تحكم الدولة في الوقت الراهن.. ومن المهم الانتباه إلى أن "الفرديات" ليست استنساخية عن بعضها البعض، ففي تاريخ الأحكام والسلط الفردية عبر العالم وجدت فرديات أرفع مستوى من أخرى، بل حاول بعضها صعود سلم يوصله إلى الفضيلة و النموذجية، ولم يخل تاريخ البلاد من ذلك، والجميع على إلمام بتاريخ الأمير العادل ولد أحمد عيده في ثلاثينات القرن التاسع عشر.

 

كان نظام الرئيس الراحل المختار ولد داداه نظاما شموليا ضمن سياق شبه عالمي في ذلك الاتجاه وقتها، لكنهلم يكن نظام فرد بالمعني الحرفي للكلمة. فلم يكن الرجل مثل خلفائه، الذين اعتمد كل منهم القاعدة الكلاسيكية: "فرق تسد" والتي وصلت نتيجتها الظاهرة والباطنة إلى حكم رجل ليس أكثر من "ساعي بريد بين وطنه وبين جيبه".

 

كالعادة، يلجأ الحاكم الفرد للتغطية على "منكراته العمومية" بـ"منكرات ذاتية" للتحصن داخل أوعيتها الدموية المزيفة. و ذلك سلوك حانوتي بامتياز جسده ببراعة "وقاف الدويرة".

 

هذه اللعبة تنطلي بسرعة فائقة على العامة، وعلى كثير من النخبة في موريتانيا. في عالمنا الثالث المتخلف ليس هنالك ما يخدم نظاما أكثر من وصفه بأنه "نظام قبلي"، أي تتحكم ويتحكم ويخدم قبيلة معينة.

 

لقد رفض الرئيس اعلي ولد محمد فال خلال فترة حكمه(2005-2007) أن ينغمس في هذه اللعبة القذرة.. وتاريخيا أثبت أنه فوق "عقلية الحريم"، رغم كل المغريات التي كانت شاخصة أمامه.

 

عكس ولد محمد فال، انغمس حكم الفرد في لعبة قبلية قذرة هدفها تحصين حكمه أطول فترة معينة، عبر استنفار طاقات قبلية وأهلية لضرب خصومه بـ"نظام من فرد لفرد".

 

لم يقم ولد عبد العزيز بذلك حبا في قبيلته، قبيلة أولاد أبي السباع، هذه الأسرة الشريفة الكريمة، التي يكفيها عزة أن فطاحلة علماء موريتانيا وصلحائها وأوليائها خلدوا مآثرها عبر قصائدهم العصماء، وتزكياتهم الموثقة.. وهي، للتاريخ، حضن مروءة كريمة، وشهامة عالية، وفروسية مشهودة، ويكفيها شرفا انتسابها لآل البيت، صفوة الخلق والخلق والنبل والعزة.

 

آثر ولد عبد العزيز في اجتماعاته بالمقربين من أشخاص قبيلته في القصر الرئاسي، وفي منتجعاته، أن يصور لهم ما يقوم به على أنه يخدم القبيلة، وعلى أن حكمه هو "حكم أولاد أبي السباع"... في حين أن الرجل أساء كثيرا حاضرا و مستقبلا لهذه الأسرة الفاضلة، بتصرفاته في هذا الإطار، والتي أصبحت على كل لسان.. فهو الرئيس الموريتاني الأكثر حديثا في مجالسه الخاصة عن القبائل.. (الفلانيين طلبه، الفلانيين ماهم ش، أنا لا أثق في أي شخص من الفلانيين.. الفلانيين يكفيهم أنني عينت منهم مديرا ولم يكن فيهم رئيس مصلحة....إلخ).

 

إنني أشعر بالاشمئزاز عند تناول هذا الموضوع، وما تناولته إلا تقريبا للصورة من ذهن الرأي العام الوطني، وإن كان البعض يرى أنها أكبر من أن تحتاج لأدوات التقريب. فهي تهيمن على الشارع قبل المجالس الخاصة.

 

يقدم ولد عبد العزيز لبعض أقاربه معلومات خطيرة هدفها استنفار الحمية القبلية لعلها تطيل من عمر حكمه الآيل إلى الزوال لا محالة. لكن لكل أجل كتاب. فما ستكون يا ترى تركة ولد عبد العزيز للتاريخ و للأجيال المقبلة و لذويه؟ و ماذا سيبقى من ذكراه في الذاكرة الجمعية؟.

 

يردد الرئيس أمام بعض الخلصاء من أقاربه أنه لأول مرة في موريتانيا يتولى منصبي "رئيس الجمهورية" و" رئيس مجلس الشيوخ" الذي هو بمثابة نائب رئيس الجمهورية، شخصان من قبيلة واحدة. و هذه سابقة في العالم اللهم ما كان من الأحكام الملكية.

 

ومراجعة عينة واحدة من هذه القائمة دليل لا يرقى إليه الشك على طبيعة حكم ولد عبد العزيز:

1.               رئاسة الجمهورية،

2.               رئاسة مجلس الشيوخ،

3.               وكالة سجل السكان والوثائق المؤمنة (هوية الشعب برمته)،

4.               إدارة الصندوق الوطني للضمان الصحي (90% من الأموال المرصودة للصحة)،

5.               الإدارة الفعلية لشركة الذهب،

6.               القائم على مصالح الرئيس في تسويق الغاز و البترول عبر شركة TULLOW لبريطانية

7.               قيادة أركان الطيران العسكري،

8.               إدارة أمن الدولة (الاستخبارات)،

9.               والي ولاية دخلت نواذيبو

10.         مكلف بمهمة في الرئاسة برتبة وزير،

11.         مستشار في الرئاسة برتبة وزير،

12.         إدارة التلفزة الموريتانية،

13.         رئيس اتحاد رجال الأعمال الموريتانيين

14.         8 من أصل 10 من موردي المواد الغذائية  من أقارب الرئيس،

15.         37 من أقارب الرئيس على رأس قائمة 50 رجل أعمال هم الأغنى فيالبلاد.

 

أصبح ولد عبد العزيز أول رئيس للبلاد يعتمد في كل شيء من تسيير أمور الدولة على أقاربه،بما في ذلك إدارة كل المرافق الحيوية للدولة وثرواتها.

هذه الأخيرة، الثروات، هي هدف "النظام الجيبي" في مساره الحانوتي القاتل.

 

دعونا لا ننشغل بالطلاء عن طبيعة الجدار ومكوناته.. فالنظام القائم يريد أن يلهينا بقمصانه الحمراء عن لعبته القاتلة للوطن، المفنية للأمة.

 

قمصان حمراء.. تتجلى في مظهر قبلي، وفي مظهر جهوي، ومظهر شرائحي حقوقي، ومظهر عرقي، هو الشماعة التي تعلق لإخافة القوى الحية من الإقدام على  التغيير..هو الرئيس الذي يعبأ خزانه القبلي، ويشعل نار الفتنة العرقية، ويفجر حساسيات الشرائح..آخر ذلك ما يفوح من رائحة  أزكمت الأنوف من مجالس القصر الرئاسي: "حكم عزيز آخر حكم للبيظان في موريتانيا". و كأن الموريتانيين يخيفهم أن يتولى رئاسة الجمهورية أحد أشقائنا و مواطنينا الزنوج.. أو كأننا في دولة يمارس فيها الميز العنصري المقيت و لسنا فيدولة عربية إفريقية شعبها مسلم و مسالم.

 

فما الذي يخطط له أباطرة النظام؟ أهو حرب أهلية تخفي الجرائم التي يجري تنفيذها منذ خمس سنوات، تطمس بذلك آثار النهب الذي تتعرض له ثروات البلاد؟.

منذ عام 2005، تضاعفت ثروات ومداخيل موريتانيا بنسبة800%، وفق أبسط حساب يتم إجراؤه.. فقد انتقل سعر طن الحديد من 27 دولارا إلى 70 دولارا الآن، وتدفقت شلالات من مئات الملايين من الدولارات على قطاعات النفط والتنقيب، وبدأ إنتاج الذهب بكميات خيالية (شحنة كل أسبوع)، وزادت تمويلات المانحين من نصف مليار إلى 5 مليارات دولار، فضلا عن المشاريع التي تنفذها هيئات التمويل العربية والإسلامية (آفطوط الساحلي والمياه، التعليم، الطاقة، الطرق، تمويل تسليح وتدريب الجيش.... إلخ)، ثم الحجم غير المسبوق للهبات والمساعدات والقروض المقدمة من الدول الشقيقة والصديقة.

 

لم نذكر قطاعات الصيد و الزراعة و التنمية الحيوانية و البنوك و الشركات الأخرى و الضرائب التي تحقق فائضا بـ 147 مليار أوقية بعد أن تخصم منها مرتبات موظفي وعمال الدولة، التي لا تتجاوز 103 مليارات، وفق الأرقام التي أعلنها الرئيس نفسه في لقاء النعمة. نفس الرئيس الذي يتبجح بكل مناسبة و من غير مناسبة أن خزينة الدولة مكتظة  بالمليارات من العملة المحلية و من العملة الصعبة في الوقت الذي يعيش فيه 70% من الشعب تحت خط الفقر المدقع و تجتاح المجاعة بعض مناطق الوطن. يا لها من مفارقة أليمة و سخرية آثمة.  الأطفال و الشيوخ يموتون جوعا و عطشا و مرضا في "آدوابه" و "الكبات، و الخزينة مكتظة، "كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه" (الرعد).

 

أجريت الدراسة الجدوائية لإنتاج الذهب من طرف "تازيزات" على أساس أن الشركة المستثمرة والبلاد ستحققان ربحا خياليا ببيع الذهب بسعر 350 دولارا للأوقية، وخلال فترة تجهيز المصنع ومع بدء إنتاج الذهب من المنجم، قفز سعر الذهب عالميا إلى 1700 دولار للأوقية.

 

كم هي الشحنة التي تحملها طائرة خاصة كل أسبوع.. وسط طوق من السرية لم تشهده أي منشأة في البلاد؟

أين تذهب مليارات الدولارات الناتجة عن عمليات الاستخراج والتنقيب والاستثمار من طرف أكثر من 170 شركة أجنبية تعمل الآن في قطاع المناجم وحده، وأين المليارات التي يجري تحصيلها من قطاعاتنا الاقتصادية (الحديد، الصيد البحري، الذهب)؟!

 

وما نتائج العمليات الغامضة الدائرة بأساليب وسخة مع الشركات الشرهة في العالم والجهات المشبوهة من شركة (بولي هوندون)، إلى "صناديق آكرا"، إلى صفقة بيع "المستجير" السنوسي.. والعرب لا تسلم الأجير مشركا كان أم مسلما:"و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"(التوبة)

 

أخشى أن مياه التعتيم غمرت رأس الجبل فتم إخفاؤه كله.

ما دام الشعب الموريتاني لا يجد من الخدمات إلا عبثية "حوانيت أمل"الهزيلة المهينة، فبكل بساطة لا تذهب مداخيل الثروات والتمويلات وأموال الشبهات إلا في اتجاه واحد هو رجال أعمال الرئيس الجدد، وسماسرته في الخارج.

 

جيل ممن كانوا يلتقطون البعرة، أصبحوا يديرون المليارات والشركات والبنوك، و يبذرون مبالغ خيالية كل ليلة في الكازينوهات و الفنادق الفاخرة للدول المجاورة، وكل ذلك على أنقاض رأس المال العمومي والخاص، وهذا الأخير تم التنكيل به لأنه لم يستوعب التعامل مع حكم جيبي إلى هذا الحد.هكذا أصبح تفليس رجل الأعمال الناجح محمد ولد بوعماتو الذي كان يسدي كثيرا من أعمال الخير للطبقات المحرومة، ونظرائه ممنأفنوا أعمارهم في بناء مجموعات مالية و اقتصادية،وكأنه هدف "الربيع المالي" الذي يقوده النظام الحالي، والذي لم يجد لإدارة تجارته وثرواته وأمواله السائلة والمنقولة سوى جسر من رعاع الأنفس، الذين كانوا مضرب المثل في التسول على أبواب الشخصيات الاجتماعية.

ذلك أن ولد عبد العزيز اجتهد في إقصاء و إبعاد أصحاب الكفاءات و أهل المعرفة و الفضل وبرع في انتقاء من يرتاح للعمل معهم وفق معياري القبلية و المحدودية الثقافية و المعرفية، سواء تعلق الأمر بالتعيينات في المناصب العلياء للدولة أو ب "التعيينات البرلمانية". و كما نسمع من حين لآخر عن الجيل الجديد من فيروسات الطاعون و الجدري، كون هؤلاء جيلا جديدا أكثر خطورة و دهاء في سرقة أرزاق الشعب و نشر ثقافة اللاثقافة و تشجيع اضمحلال الأخلاق و إبقاء موريتانيا في الحضيض.

و من تجليات هذا الواقع الحضيضي الأليم إقدام شاب موريتاني على سب الرسول الأكرم والتبجح بنشرها على أوسع شبكة معلومات في العالم. لم يأت ذلك من فراغ..فقد جاء في فترة قام فيها نظام الجنرال ولد عبد العزيز بتقييد إرادة من يسعون لموريتانيا المستقبل، وبالمقابل قام بإطلاق العنان للأنذال و الأراذل و الفساق و لعصابات السوء الأخلاقي والفكري والحقوقي من أجل تجاوز كل الخطوط الحمراء والمقدسات، للتغطية على فعلاته الانتخابية و إلهاء الشعب عن منكراته الاقتصادية، و لا يعبأ إن صار نبي الرحمة و شفيع الأمة يتلقى الإساءة من أرض المنارة والرباط.

 

قبل اليوم صدم المجتمع الموريتاني بحثالة حقوقيين يسبون العلماء ويحرقون الكتب الفقهية بما فيها من آيات بينات وأحاديث شريفة، وهكذا طفقوا يروجون ثقافة العنصرية والكره والبغضاء بين فئات شعبنا الواحد.. فلم يسلم منهم عالم ولا مصلح، ولا فئة اجتماعية.. وترك لهم الحبل على الغارب لتشويه حضارة الشناقطة حضارة العرب والأفارقة المجاهدين العظام في هذا الثغر الأبي الذي  ما لم يدرك فيه بالتي هي أحسن لن يدرك بالعنف و الهمجية و العنجهية.

 

واليوم يأتي شاب مأجور القلم و الحنجرة، من التيار الإلحادي المتغرب، الذي هو نتاج حكم عزيز، ليتهم الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام بالعنصرية، ويدافع بمقاله المسيء عن يهود خيبر..!

 

من منكم كان يتصور مشهدا كهذا في أرض المسلمين،.؟ لكن  الذي لم يقع في هذه الربوع على مدى أربعة عشر قرن، و لم و لن يقع في بلد إسلامي آخر، وقع اليوم تحت نظام وحكم ولد عبد العزيز مدنسا به أرض الشناقطة العظام، أرض المرابطين الفاتحين. إنها حقا محنة و ابتلاء. نسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.

 

لقد كان غضب الشعب الموريتاني و ردة فعله على هذا الإجرام الشنيع على مستوى الحدث الجلل الأليم، فخرجت الحشود من كل صوب و حدب نصرة لله و لرسوله منددة مستنكرة، فهاجمت القصر الرئاسي و اقتحمته محملة النظام مسئولية هذه الانزلاقات و هذا الإفلاس الخلقي الذي يرعاه النظام الحانوتي. 

و يخرج لهم محمد ولد عبد العزيز خرجة الإمام المصلح، ليخاطب المتظاهرين المصدومين بقوله "إن موريتانيا ليست علمانية وإن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل اعتبار، ولا يمكن بأي حال من الأحوال المساس بدين الدولة والشعب".

 

ويقول عزيز "كما أكدت لكم في الماضي أؤكد لكم اليوم مجددا إن "هذه الدولة دولة إسلامية وإن الديمقراطية لا تعني المساس بالمقدسات... وأجدد التأكيد مرة أخرى أن رئيس الجمهورية والحكومة سيتخذون جميع الإجراءات من أجل حماية ديننا الإسلامي وأن العدالة ستأخذ مجراها وأن المعني الآن بين يديها تتابع التحقيق معه".

 

ما أشبه الليلة بالبارحة...

 

بالأمس خرج الجنرال عزيز بنفس الزي و اللثام  ليقول نفس الكلام عندما قام بيرام ولد أعبيدي بحرق أمهات كتب الفقه الإسلامي في العاصمة نواكشوط.. لقد تعهد الجنرال يومها أمام نفس المتظاهرين بحماية مقدسات الدين وبمحاكمة الجناة.

 

ترى هل تمت محاكمة من حرقوا الكتب الإسلامية؟ وماذا كانت نتيجة تعهد الجنرال؟ ألم تكن كذبة مشهودة؟ فمن حرقوا كتب الإسلام ينعمون اليوم بجوائز الأمم المتحدة وبفنادق الغرب المتصهين وبأمواله.

 

وكل ذلك بسبب لا مبالاة الحكم الفرد بأساليبه الحانوتية، بقيم الدين والمجتمع ومصالح الأمة.

 

يذكرني ما يجري في موريتانيا بحكم"ديونيسيوس"حاكم سرقوسة، الذي حاز السبق التاريخي بإرسائه أول حكم للمرتزقة تحت مسمى الديمقراطية المرفهة. وطوال التاريخ لم تتخلص الدول التي حكمتها العصابات من إرثها العصابي إلا بكثير من الدماء والفتن.

 

في موريتانيا.. لا تتوقعوا أن ينصف"قارقوش" فلاحا.. لأن إدراكه لتسيير الشأن العام منوط بمحدودية ذكائه، قبل أن يكون وليد شهوة مرضية مما زين للناس، وفق مدلول الآية الكريمة الشهيرة."زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة  من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب". (آل عمران)

 

نحن هنا أمام واقع مر ومرير، أمام أمة تباع مصالحها بالجملة والتجزئة.. حتى بطاقة الهوية الوطنية دخلت مزاد الاستثمار الفردي، بأبشع صورة تقع عليها العين.

ألم يتوقف أحدكم عند تجل بسيط لظاهرة "الحكم الجيبي".. إذا نظرتم إلى بطاقة التعريف الوطنية الجديدة ستجدون أنه مكتوب عليها أنها صادرة عن إدارة الأمن الوطني، وهي الصادرة عن "إدارة أمربيه ولد الولي"، الاسم الشائع لهذه الإدارة لدى المواطنين البسطاء و لا علاقة لها البتة  بإدارة الأمن.

 

لقد كانت هذه المهزلة المضحكة المبكية و التي وصفت بأنها انتخابات، فضيحة سياسية و أخلاقية حولت الانتخابات البرلمانية و البلدية إلى أهازيج فولكلورية و مبارزات كانتونات في أغلب المناطق حيث أيقظت حاسة المرجعية القبلية بشكل مخيف يعيدنا إلى مربع الصفر إن لم نقل إلى قعر الجحيم السياسي القادم. و ما جرى في هذه الانتخابات من ما يندى له الجبين و تقشعر منه الأبدان هو عربون و نذير من النذر الأولى لما يخطط له و ينتظرنا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

يا للحد الذي وصلته السخرية من هذا الشعب.. إنه فعلا يرغم على شرب الرمال.. ويسام ذلاّ في أودية العطش النفعية.

 

البلاد الآن تدخل أسوء حقبة عرفتها على مر التاريخ، لم تصلها في أحلك الحقب الطائعية... البلد الآن يجري عكس عقارب ساعة التغيير.. المجتمع يسلم مفاتيحه لسدنة الفساد.. عملية الاستنساخ أنجبت من رحم الفساد نفس الوجوه بملامحها، بلعبها بالكلام والمفاهيم، بنواياها ومبادئها الخلفية. لا شيء تغير.. الناس تسير في الهاوية نفسها..

 

النخبة الفكرية والسياسية، إلا من رحم ربك، تمالأت أيضا وأصيبت بخرس مريب.  ألا أذكركم أن الصامت على الباطل شيطان أخرس.

ليس الآن من السهل انتزاع موريتانيا من بين مخالب طائر الفساد المحلق منذ الآن بخيله و رجله فوق صناديق اقتراع  الرئاسيات الوشيكة و فوق الضمائر المريضة و الذمم الرخيصة، يعدهم و يمنيهم.

 

السياسة معركة لا يموت  فيها  سوى الشعوب المغفلة والأوطان المهملة.

البحث عن الكرامة الوطنية في هذه التلال أصبح مستحيلا في هذا الظرف... ومع كل هذا التغيير الذي نخرج منه بلا تغيير... جعجعة بلا طحين.

 

ما الذي يمكن للنخبة الوطنية فعله إزاء ما يجري؟ وقد بلغ السيل الزبى، وتجاوزت خطوات التراجع كل التوقع مع التسيير البرزخي للبلاد ومصالح الأمة الموريتانية؟

ثمة العديد من المحاور التي يجب أن نتحرك الآن باتجاهها دون تردد، فصناعة الفرص أفضل من انتظارها. و كما قرأت لأحد الكتاب "لا بد من مشروع ما بعد التحرير قبل التحرير".

 

سأتحفظ قطعا على تقديم الحلول الفرضية، التي تسمى في الخطاب السياسي بالوصفات الجاهزة، ولكن ثمة تصورات وأفكار يمكن نقاشها وتطويرها لإخراج البلاد من المساحة ما بين المطرقة والسندان، المساحة ما بين الجمر والرماد.فميزان القوة سهل التغيير أمام بوصلة سياسية واعية بظروف ومعطيات المجتمع ونقاط القوة والضعف. ولا شك أن الحكم الجيبي في مساره الحانوتي هو الأسهل مشاغلة عن خطة محكمة في هذا المجال لإعادة تأسيس الدولة على أسس سليمة، لأنه ببساطة مشغول البال بجمع المال، والله تبارك وتعالى ما جعل لرجل من قلبين في جوفه.

 

نصيحة و موعظة لمن يهمه الأمر،كي لا تأخذني في الله لومة لائملأن الله يسأل عن صحبة ساعة. مع العلم أنه سيوجد من بين بطانة و موالي  من سيسفه له نصحي و مقالي و يزين له الصدود عنه والتعالي. لكن لست بذا الشأن أبالي، فالله حسيبي في قصدي و نيتي و فعالي، فأقول  و عليه معتمدي و اتكالي:

·       تأمل أيها الرئيس هذه الآية لعلها تحدث لك ذكرى. و إنما يذكر أولو الألباب: "و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون" (الأنعام). 

·       اعلم أن لكل مواطن عليك حقا سوف يقاضيك فيه بين يدي الله "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا. و يحذركم الله نفسه". فهل أعددت حجتك؟

·       اعلم أنه "من يغلل يأتي بما غل يوم القيامة".

·       اعلم أنك ستحمل أوزارك و أوزار كل مظلوم و محروم و أوزار من يضلونك عن الصراط السوي و اعلم أن العقبة كأداء "و إن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء و لو كان ذا قربى".

·       اعلم، و أنت سليل العترة الطاهرة و النسب الأعلى، أن الحسنة حسنة و هي في بيوت النبوة أحسن و أن السيئة سيئة و هي في بيوت النبوة أسوء. "يا نساء النبي من يأتي منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا. و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين و أعتدنا لها رزقا كريما" (الأحزاب).

 

اللهم إنا نسألك حسن المآب.

رسالة إلى إخوتي في المعارضة المحاورة و من يحذو حذوهم

السلام عليكم أيها الزعماء الأجلاء، رموز الصمود و النضال في بلاد الرجال.. كفاكم مهادنة وعقلانية.. كفاكم أيضا من الصبر والحكمة والموعظة،  فمن تخاطبون بالمودة وطلب الحوار والسجال  هو من يملك الصفقات و العمولات و العقارات والاستثمارات والمناصب والمغاصب.. ولن يتنازل عن جنته ولن يتخلى عن شيطانه و لن يسلك بالدولة إلا طريقا واحدا..  انسوا أمر "الأنظمة الفاضلة"..

لا تكونوا عامل تبرير، وديكور توظيفي في مشهد سياسي ملوث، كفاكم من سياسة التعازي، والقبول بالأمر الواقع وانتظار الفرج... لا تكونوا كما كنتم.. وإلا فإنكم وحاملها وبائعها و شاريها وشاربها واحد..انتبهوا لحرثكم! لقد قطف الآخرون ما زرعتم أو كادوا. انتبهوا ليومكم، فلا تغرنكم حصيلته... انتبهوا لغدكم و إلا فإن أمامكم خمس شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون... من كرامتكم و مصداقيتكم.... اصمدوا و دافعوا و قاوموا و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين... و سيأتي الله بعام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون.

يتواصل...

أتمنى.. وأتوقع / أحمد ولد الوديعة

بين ما يتمنى المرأ وما يدرك مسافة كثيرا ما جرت الرياح بما يجعلها تتسع، وفي أحيان عديدة تأتي الرياح بما تشتهي السفن  فيتحقق الحلم ولو بعد آماد طويلة.

في النواحي العاطفية من حياة الإنسان غالبا ما يجد صاحب الحلم  أو الأمنية متعة ولذة في حالة الحرمان تلك فيجسدها نصوصا أدبية تجعل المتلقى يسعد بحرمان الضحية ؛

 إذ لولا لحظات الشقاء والهجر تلك لما جادت قريحة المبدع أو الفنان بقطع جمالية تبقي أزمنة طويلة بعد صاحبها، دليلا إضافيا في حوزة من يجادلون أن الأدب مأساة أولا يكون.

أما في الجوانب العاقلة من حياة الإنسان فالهوة بين التمني والتوقع، بين الخطة والانجاز، بين المصلحة العليا وتنكب طريقها، هو المأساة بمعناها الأصلي وليس بدلالتها الأدبية المضمخة بالتخيل والانزياح .

في واقعنا السياسي الموريتاني  - الذي لايحتل فيه الشعراء  مكانة مقدرة في ألطف التعبيرات  -  تبدو الهوة إلى اتساع بين ما نتمنى وما نتوقع منذرة باستمرار البلد في السير الحثيث نحو إضاعة المزيد من فرص الانطلاق نحو تأسيس وطن، أو ربما حتى نحو الحلم بتأسيس وطن، لعل من أكثر عناوين المأساة عندنا درامية أن الحلم بوطن لايبدو  مرئيا على الأقل في خريطة  أحلام الكثير منا بمن فيهم – وتلك هي الطامة – من يفترض أنهم يتصدرون مشهد العمل من أجل تأسيس وطن

وحتى لا نذهب بعيدا في المنحى الشاعري الذي يجزم رئيسنا -  غير الشاعر طبعا -   أنهم أصل المأساة، أستأذنكم في جولة سريعة  بين خريطة ما أتمنى وما أتوقع في عامنا الجديد هذا.

- أتمنى أن يقرأ الرئيس وسلطته نتائج الانتخابات الأخيرة قراءة صحيحة، تضع خطوطا عريضة تحت فشل الانتحابات الذريع في حل الأزمة السياسية وتحولها إلى عنصر تأزيم وتعقيد إضافي وهي التي كان من الممكن أن تكون محطة هامة نحو" عودة متدرجة لعملية ديمقراطية ذات مصداقية"....

لكني – وبكل أسف – أتوقع أن يستمر الرئيس في القراءة التي عبر عنها وهو يخرج من مكتب الاقتراع في الشوط الثاني منتشيا بعد أن لم يحتج للاستعانة برئيس اللجنة في إكمال عميلة تصويته ويعلن أن المعارضة" فاتها القطار على مدى السنوات الخمس القادمة"..

لقد قالها أخ لك من قبل رئيس وجنرال لكنه وجد نفسه في النهاية مضطرا للنزول من القطار وتسليم قيادته لطاقم مشترك  ليعيده في النهاية إلى نقطة البداية حيث يمكن للجميع أن يأخذ مقعده الوطني في رحلة يحدد الجميع أيضا وجهتها ومحطات توقفها  بما فيها تلك الاضطراية.

-  أتمنى أن تدرك المعارضة المقاطعة أنه ليس بالشعارات وحدها ينجز التغيير، وأن التمسك بخيارات راديكالية ثورية والسير نحوها بخطوات  تقليدية إصلاحية ممجوجة هو أفضل وصفة لتنفير الناس من التغيير وتحويله بشعاراته وحامليه والعاملين من أجله إلى مادة للتنكيت الجمعي... فالثورة المرخصة تصلح عنوان قصيدة لكنها ليست عنوان مرحلة سياسية...

أما ما أتوقع لمعارضتنا المقاطعة فهو الاستمرار في نهج الجمود على خيارات لاتسندها خطط قادرة على تحقيقها، والتوغل أكثر في تسديد النيران باتجاه شركاء الخندق المعارض الذين أو صلتهم خياراتهم السياسية  لمسار مختلف ولو جزئيا، وبالطبع سيكون من المجازفة الكبيرة  توقع قدرة هؤلاء وغيرهم من المعارضين على توحيد الموقف من الاستحقاق الرئاسي.. آه لو أن بإمكاني توقع أنهم سينجحون في ذلك لفعلت حتى  اكسر الطابع الحزين لخريطة التوقعات هذه.

-  أتمنى أن تدرك معارضتنا المشاركة  أن ما حققت من نتائج في الانتخابات الماضية متواضع جدا ليس بحساب عدد المقاعد التي حققت مجتمعة أو منفردة فحسب، بل وأيضا بحساب المصلحة الديمقراطية العليا؛ وبالتالي فالواجب عليها الآن أن تكون ضمن المبادرين للعثور على أرضية مشتركة مع بقية المعارضين لاستئناف مسار النضال الديمقراطي المشترك من أجل فرض عملية ديمقراطية حقة....

أتوقع أن معارضينا المشاركين سيعتبرون الآن أنهم أول المعني بالدفاع عن نتائج انتخابات كانوا هم أكثر من قدم للرأي العام جوانب الخلل فيها، وستقودهم هذه الموجة الدفاعية إلى  شواطئ  إن لم تكن على ضفة السلطة فستكون قريبة منها إلى الحد الذي إن لم يحجب الرؤية فسيجعلها قاصرة عن الإلمام بتفاصيل جوانب النقص والتقصير.

- أتمنى أن يدرك المتخاصمون على مواقع التواصل الاجتماعي من التيارات السياسية والفكرية المعارضة أن خصوماتهم " سابقة لأوانها" وخادمة في محصلتها النهائية لاستمرار حكم العسكر وبالتالي حال التخلف... وتوقعي أن نيران الخلاف ستتسع إذ لايوجد في الواقع الكثير من المقتنعين بفكرة ضرورة إطفاء النيران، وتبدو القلة القليلة المؤمنة بفكرة تأجيل الاشتباك أو وضع قواعد له تحمي مراكب النضال من أجل الديمقراطية لهيبه.. تبدو هذه القلة بين المعزول أو المجرد من أدوات الإطفاء الضرورية للتعامل مع حريق تذكيه تيارات قوية قادمة من الشمال، وتوفر له " آلتنا الأمنية" حصبا كافيا للاشتعال في الأفق السياسي المنظور.

- أتمنى  - و آخر الأمنيات أصعبها وأغلاها  -  أن نمتلك ؛نخبا وحكاما شجاعة الانخراط في جهد وطني جامع ، يرفع الظلم عن المظلومين وما أكثرهم، ويسلك طريق أمل نحو المستقبل، طريقا ينهي مع ممارسات الاسترقاق والعنصرية، ينصف لمعلمين ويرفع عنهم أغلال الظلم الاجتماعي، يعيد الحقوق لضحايا الإرث الإنساني، ويمكن المبعدين العائدين من سنوات الإبعاد من كامل حقوقهم السياسية والمدنية، ويفتح نقاشا وطنيا يفضي لدولة قانون تحتفي وتفتخر بكل مكوناتها بكل لغاتها بكل ألوانها....

مع صعوبة توقع أمر مختلف عن حلمنا الجميل السابق أجدني مضطرا للامتناع عن  أن أبيعكم مخدرات فأنا في هذه -  وفي أمور أخرى  - على  مذهب أحمد مطر ... روحو اشتروا تلك البضاعة من دكاكين الولاة... أنا لا أبيع مخدرات

في أفقنا الوطني الحزين نظام حكم برأي واحد ولون واحد وأفق واحد، وأيا تكن التحالفات أو التلوينات التي يظهر أو تظهر معه،  فهو غير معني وغير مؤهل لتحقيق دولة المواطنة.. قد يخرج  من حين لآخر ملثما  أو حاسر الرأس ليعلن  إعلانات انتخابية قصيرة الأمد... قد يدفع مبالغ أو قطعا أرضية لهذا الضحية أو تلك، قد يؤسس هيئات بضغط دولي  لكنه - وأقولها على مسؤوليتي -  لن يقدمنا قيد أنملة نحو وحدة قائمة على العدل واحترام التنوع  وتجسيد الأخوة الإسلامية الحقة.

ليت مأساوية المشهد تنتهي هنا لتترك لنا رهانا ممكنا على  "نخبنا الوطنية "  لكن واقع الحال يقول إن هذه النخب يغلب عليها تياران يدافع أحدهما بكل ما يملك عن الوضع القائم بكل اختلالاته ومظالمه، ويبذل الثاني أقصى الجهد لخصخصة النضال من أجل الحرية ووضع المتاريس أمام كل فكرة أو مجموعة يمكنها أن تعجل في فضح ممارسي الظلم وتعريتهم من أدوات ظلمهم القانونية والفقهية والسياسية.

تلك  خريطة  أمنيات وتوقعات تبدو  قاتمة معتمة مأساوية إلى الحد الذي ربما يجعل البعض يسأل إذا ما الفائدة من العمل ما دام أن الأمور سائرة كلها في هذه الوجهة الخاطئة ... لكن الحقيقة أن هذا السير ليس حتميا ولا قدريا، بل إنه أحد الممكنات فقط، ويبقى من الممكن تماما أن تسير الأمور في اتجاه ما تشتهيه سفن الحالمين بغد مختلف لنحقق الأمنيات أو نقترب منها فندركها في عام قادم.. فمن سار على الدرب وصل ومن حلم بالحرية والوحدة والأخوة نالها...

أو نسيتم  بشائر الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين  بمفاتيح الشام وقصورها الحمر،  وقصر المدائن، وهم يحفرون الخندق لمواجهة زحف الأحزاب المفزع...   لنحتفظ بالأمل لنحتفظ بالحلم

أتمنى.. وأتوقع / أحمد ولد الوديعة

بين ما يتمنى المرأ وما يدرك مسافة كثيرا ما جرت الرياح بما يجعلها تتسع، وفي أحيان عديدة تأتي الرياح بما تشتهي السفن  فيتحقق الحلم ولو بعد آماد طويلة.

في النواحي العاطفية من حياة الإنسان غالبا ما يجد صاحب الحلم  أو الأمنية متعة ولذة في حالة الحرمان تلك فيجسدها نصوصا أدبية تجعل المتلقى يسعد بحرمان الضحية ؛

 إذ لولا لحظات الشقاء والهجر تلك لما جادت قريحة المبدع أو الفنان بقطع جمالية تبقي أزمنة طويلة بعد صاحبها، دليلا إضافيا في حوزة من يجادلون أن الأدب مأساة أولا يكون.

أما في الجوانب العاقلة من حياة الإنسان فالهوة بين التمني والتوقع، بين الخطة والانجاز، بين المصلحة العليا وتنكب طريقها، هو المأساة بمعناها الأصلي وليس بدلالتها الأدبية المضمخة بالتخيل والانزياح .

في واقعنا السياسي الموريتاني  - الذي لايحتل فيه الشعراء  مكانة مقدرة في ألطف التعبيرات  -  تبدو الهوة إلى اتساع بين ما نتمنى وما نتوقع منذرة باستمرار البلد في السير الحثيث نحو إضاعة المزيد من فرص الانطلاق نحو تأسيس وطن، أو ربما حتى نحو الحلم بتأسيس وطن، لعل من أكثر عناوين المأساة عندنا درامية أن الحلم بوطن لايبدو  مرئيا على الأقل في خريطة  أحلام الكثير منا بمن فيهم – وتلك هي الطامة – من يفترض أنهم يتصدرون مشهد العمل من أجل تأسيس وطن

وحتى لا نذهب بعيدا في المنحى الشاعري الذي يجزم رئيسنا -  غير الشاعر طبعا -   أنهم أصل المأساة، أستأذنكم في جولة سريعة  بين خريطة ما أتمنى وما أتوقع في عامنا الجديد هذا.

- أتمنى أن يقرأ الرئيس وسلطته نتائج الانتخابات الأخيرة قراءة صحيحة، تضع خطوطا عريضة تحت فشل الانتحابات الذريع في حل الأزمة السياسية وتحولها إلى عنصر تأزيم وتعقيد إضافي وهي التي كان من الممكن أن تكون محطة هامة نحو" عودة متدرجة لعملية ديمقراطية ذات مصداقية"....

لكني – وبكل أسف – أتوقع أن يستمر الرئيس في القراءة التي عبر عنها وهو يخرج من مكتب الاقتراع في الشوط الثاني منتشيا بعد أن لم يحتج للاستعانة برئيس اللجنة في إكمال عميلة تصويته ويعلن أن المعارضة" فاتها القطار على مدى السنوات الخمس القادمة"..

لقد قالها أخ لك من قبل رئيس وجنرال لكنه وجد نفسه في النهاية مضطرا للنزول من القطار وتسليم قيادته لطاقم مشترك  ليعيده في النهاية إلى نقطة البداية حيث يمكن للجميع أن يأخذ مقعده الوطني في رحلة يحدد الجميع أيضا وجهتها ومحطات توقفها  بما فيها تلك الاضطراية.

-  أتمنى أن تدرك المعارضة المقاطعة أنه ليس بالشعارات وحدها ينجز التغيير، وأن التمسك بخيارات راديكالية ثورية والسير نحوها بخطوات  تقليدية إصلاحية ممجوجة هو أفضل وصفة لتنفير الناس من التغيير وتحويله بشعاراته وحامليه والعاملين من أجله إلى مادة للتنكيت الجمعي... فالثورة المرخصة تصلح عنوان قصيدة لكنها ليست عنوان مرحلة سياسية...

أما ما أتوقع لمعارضتنا المقاطعة فهو الاستمرار في نهج الجمود على خيارات لاتسندها خطط قادرة على تحقيقها، والتوغل أكثر في تسديد النيران باتجاه شركاء الخندق المعارض الذين أو صلتهم خياراتهم السياسية  لمسار مختلف ولو جزئيا، وبالطبع سيكون من المجازفة الكبيرة  توقع قدرة هؤلاء وغيرهم من المعارضين على توحيد الموقف من الاستحقاق الرئاسي.. آه لو أن بإمكاني توقع أنهم سينجحون في ذلك لفعلت حتى  اكسر الطابع الحزين لخريطة التوقعات هذه.

-  أتمنى أن تدرك معارضتنا المشاركة  أن ما حققت من نتائج في الانتخابات الماضية متواضع جدا ليس بحساب عدد المقاعد التي حققت مجتمعة أو منفردة فحسب، بل وأيضا بحساب المصلحة الديمقراطية العليا؛ وبالتالي فالواجب عليها الآن أن تكون ضمن المبادرين للعثور على أرضية مشتركة مع بقية المعارضين لاستئناف مسار النضال الديمقراطي المشترك من أجل فرض عملية ديمقراطية حقة....

أتوقع أن معارضينا المشاركين سيعتبرون الآن أنهم أول المعني بالدفاع عن نتائج انتخابات كانوا هم أكثر من قدم للرأي العام جوانب الخلل فيها، وستقودهم هذه الموجة الدفاعية إلى  شواطئ  إن لم تكن على ضفة السلطة فستكون قريبة منها إلى الحد الذي إن لم يحجب الرؤية فسيجعلها قاصرة عن الإلمام بتفاصيل جوانب النقص والتقصير.

- أتمنى أن يدرك المتخاصمون على مواقع التواصل الاجتماعي من التيارات السياسية والفكرية المعارضة أن خصوماتهم " سابقة لأوانها" وخادمة في محصلتها النهائية لاستمرار حكم العسكر وبالتالي حال التخلف... وتوقعي أن نيران الخلاف ستتسع إذ لايوجد في الواقع الكثير من المقتنعين بفكرة ضرورة إطفاء النيران، وتبدو القلة القليلة المؤمنة بفكرة تأجيل الاشتباك أو وضع قواعد له تحمي مراكب النضال من أجل الديمقراطية لهيبه.. تبدو هذه القلة بين المعزول أو المجرد من أدوات الإطفاء الضرورية للتعامل مع حريق تذكيه تيارات قوية قادمة من الشمال، وتوفر له " آلتنا الأمنية" حصبا كافيا للاشتعال في الأفق السياسي المنظور.

- أتمنى  - و آخر الأمنيات أصعبها وأغلاها  -  أن نمتلك ؛نخبا وحكاما شجاعة الانخراط في جهد وطني جامع ، يرفع الظلم عن المظلومين وما أكثرهم، ويسلك طريق أمل نحو المستقبل، طريقا ينهي مع ممارسات الاسترقاق والعنصرية، ينصف لمعلمين ويرفع عنهم أغلال الظلم الاجتماعي، يعيد الحقوق لضحايا الإرث الإنساني، ويمكن المبعدين العائدين من سنوات الإبعاد من كامل حقوقهم السياسية والمدنية، ويفتح نقاشا وطنيا يفضي لدولة قانون تحتفي وتفتخر بكل مكوناتها بكل لغاتها بكل ألوانها....

مع صعوبة توقع أمر مختلف عن حلمنا الجميل السابق أجدني مضطرا للامتناع عن  أن أبيعكم مخدرات فأنا في هذه -  وفي أمور أخرى  - على  مذهب أحمد مطر ... روحو اشتروا تلك البضاعة من دكاكين الولاة... أنا لا أبيع مخدرات

في أفقنا الوطني الحزين نظام حكم برأي واحد ولون واحد وأفق واحد، وأيا تكن التحالفات أو التلوينات التي يظهر أو تظهر معه،  فهو غير معني وغير مؤهل لتحقيق دولة المواطنة.. قد يخرج  من حين لآخر ملثما  أو حاسر الرأس ليعلن  إعلانات انتخابية قصيرة الأمد... قد يدفع مبالغ أو قطعا أرضية لهذا الضحية أو تلك، قد يؤسس هيئات بضغط دولي  لكنه - وأقولها على مسؤوليتي -  لن يقدمنا قيد أنملة نحو وحدة قائمة على العدل واحترام التنوع  وتجسيد الأخوة الإسلامية الحقة.

ليت مأساوية المشهد تنتهي هنا لتترك لنا رهانا ممكنا على  "نخبنا الوطنية "  لكن واقع الحال يقول إن هذه النخب يغلب عليها تياران يدافع أحدهما بكل ما يملك عن الوضع القائم بكل اختلالاته ومظالمه، ويبذل الثاني أقصى الجهد لخصخصة النضال من أجل الحرية ووضع المتاريس أمام كل فكرة أو مجموعة يمكنها أن تعجل في فضح ممارسي الظلم وتعريتهم من أدوات ظلمهم القانونية والفقهية والسياسية.

تلك  خريطة  أمنيات وتوقعات تبدو  قاتمة معتمة مأساوية إلى الحد الذي ربما يجعل البعض يسأل إذا ما الفائدة من العمل ما دام أن الأمور سائرة كلها في هذه الوجهة الخاطئة ... لكن الحقيقة أن هذا السير ليس حتميا ولا قدريا، بل إنه أحد الممكنات فقط، ويبقى من الممكن تماما أن تسير الأمور في اتجاه ما تشتهيه سفن الحالمين بغد مختلف لنحقق الأمنيات أو نقترب منها فندركها في عام قادم.. فمن سار على الدرب وصل ومن حلم بالحرية والوحدة والأخوة نالها...

أو نسيتم  بشائر الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين  بمفاتيح الشام وقصورها الحمر،  وقصر المدائن، وهم يحفرون الخندق لمواجهة زحف الأحزاب المفزع...   لنحتفظ بالأمل لنحتفظ بالحلم

"الشيخ سيدي أحمد البكاي" في ولاته

"الشيخ سيدي أحمد البكاي في ولاته، أو ما بين الرحلتين: رحلة ابن بطوطة ورحلة الوزان"

الحسين بن محنض


محور هذه المداخلة هو "الشيخ سيدي أحمد البكاي في ولاته، أو ما بين الرحلتين: رحلة ابن بطوطة ورحلة الوزان". رحلة ابن بطوطة التي سبقت مقدم الشيخ سيدي أحمد البكاي، إلى ولاته بأكثر من قرن ونصف، ورحلة الوزان التي أعقبت وفاته بسنوات قليلة. وكيف تؤكد هاتان الرحلتان ما جاء في المصادر المحلية من تغير كبير في حياة الولاتيين العلمية والدينية قاده هذا الشيخ الجليل بعد مقدمه إلى ولاته.

ولاته من النشأة حتى عهد الشيخ سيدي أحمد البكاي (الأصول والتسمية والتاريخ):
مثلت الصحراء الشنقيطية خلال حقبة ما قبل التاريخ موئلا لشظايا بشرية متنوعة، عبرت أولى الأجيال المعروفة منها مضيق السويس إبان الفترة العطرية (العصر الحجري القديم)، وسارت بمحاذاة الشاطئ المتوسطي بعدما اختلطت بأفواج من سكان حوض الأبيض المتوسط ومن الأقباط المصريين، حتى وصلت في نزحات متفاوتة إلى الشواطئ الأطلسية للمغرب الأقصى، ومنها انسابت إلى الصحراء، ثم أخذت في الانتشار ببطء إلى أن وصلت خلال الفترة الآشولية (العصر الحجري القديم) إلى ضفاف نهر السينغال. وقد توزعت هذه الأفواج القادمة من الشمال في ما بين عشر آلاف إلى سبع آلاف سنة قبل الآن في مختلف أنحاء بلاد شنقيط التي كانت شبه خالية قبيل مقدمها بسبب القحط، مشكلة أساس أقدم الثقافات البشرية المعروفة في العصر الحجري الجديد في البلاد . وأظهرت الآثار المكتشفة في ظهر ولاته وظهر تيشيت ثقافات حضارية شبه متقدمة في منطقة الحوض وتگانت قبل ثلاث آلاف وخمسمائة سنة من الآن ، قبل أن يضطر القحط أغلبها إلى النزول غربا باتجاه المحيط الأطلسي.
وبقيت في منطقة الحوض من هذه الشظايا عشائر ذات أصول قبطية نزحت إلى بلاد شنقيط خلال العهد الفرعوني، وامتزجت هذه العشائر التي عاشت في ظهر ولاته ونواحيه ردحا من الزمن، مع شعوب الديولا والبامبارا والمالينكى المكونة لمجموعة الماندينگ التي مثلت الرافد البشري الأساس لمملكة غانه إبان قيامها خلال القرن الثاني للهجرة (8م)، مشكلة أساس الشعب السوننكي، كما تذكر المرويات السوننكية لعشائر واگي الارستقراطية ، وتؤكد الأبحاث المعاصرة.
وقبل ثمانية آلاف سنة من الآن وصلت إلى بلاد شنقيط قبائل إيزگارن البربرية الزناتية، فانتشرت في أرجائها، وكانوا أهل زرع وحرث، وظلت بقاياهم في نواحي ولاته إلى فترة قريبة، وهم الذين يعبر عنهم السعدي في تاريخ السودان وغيره من مؤرخي العصر الوسيط بالزغرانيين.
ثم تتالت النزحات بعد ذلك من الفترة الممتدة من العهد الفينيقي إلى العهد الروماني على بلاد شنقيط قادمة من المغرب العربي، أو من حوض الأبيض المتوسط، فتحدث هيرودوت (القرن 5 قبل الميلاد) عن مجموعات تعرف بالنازامونيين، وذكر أن أفرادا منها قطعوا الصحراء، وواصلوا رحلتهم باتجاه الجنوب إلى أن «وصلوا إلى نهر كبير يقطن بالقرب منه أناس قصار سود يجهلون لغتهم »، وتحدث سالوست عن مجموعات من الموريين توغلوا في الصحراء، وذكر أن الموريين في الأصل خليط من الماديين والأرمن، وغيرهم من الأوروبيين والآسيويين امتزجوا باللوبيين على ضفاف البحر المتوسط، وتحدث استرابونه (60 ق.م) عن قبائل الفاروزيين (الفرس) الذين كانوا يجوبون الصحراء في أوائل القرن الأول للميلاد، وذكر أنهم كانوا يمتلكون عربات مسلحة، وأنهم هم المسؤولون عن تدمير الكثير من القرى الفينيقية بالصحراء. وكان هؤلاء الفاروزيون في القرن الأول للميلاد جيرانا للگيتوليين (گدالة) كما ذكر ابلين لانيينه . وكانوا يراقبون مسلكا يخترق البلاد ويصل إلى نهر السينغال قبل أن يختلطوا بقبائل گدالة، وهؤلاء الفاروزيون هم الذين جلبوا العربات التي اكتشفت آثارها على طول الطرق التي كانت تسلكها من آدرار شمالا مرورا بتگانت ثم ظهر تيشيت وولاتة باتجاه نهر النيجر، وفي أماكن أخرى متفرقة من بلاد شنقيط.
وخلال هذه الحقبة كانت قبائل من الأستوريين والمارماريديين والمازيقيين تشكل مع النازامونيين حزاما قبليا منتشرا بالتخوم الصحراوية، وتوغلت بعض مجموعات هذه القبائل في حقبة من حقب العصور الميلادية الأولى في بلاد شنقيط . ونقل استرابونه عن آرتمديور أن أقواما يدعون لوتوفاج هاجروا من شمال إفريقيا واستقروا في المنطقة التي لا ماء فيها وأصبحوا يعيشون على الأزهار والأعشاب وجذور الأشجار، وكانوا يستعيضون عن الشرب بامتصاصهم لتلك الجذور .
وفي أواخر القرن الميلادي الأول (بين 81 و96م) قام الرومان بنشر قبائل بربرية بيضاء قادمة من ليبيا تدعى أغرمان في بلاد شنقيط، ثم شرعت هذه القبائل في تنظيم وحماية قوافل الذهب التي كانت تربط بين الجنوب السوداني والشمال الإفريقي، حالة محل الفاروزيين الذين كانوا يقومون بهذه المهمة. وقد أطلق السوننكيون وغيرهم من زنوج المنطقة على هذه القبائل البيضاء التي استقرت في بلاد شنقيط، وأصبحت على احتكاك بهم اسم "السرغولى"، ومعنى "السرغولى" في لسان هؤلاء الزنوج الرجال البيض . ومع مرور الزمن اندمج قسم كبير من هؤلاء الأغرمان (السرغولى) في الشعب السوننكي فأصبحت لفظة السرغولى اسما من الأسماء المرادفة في هذه البلاد لاسم السوننكيين.
وتمكن هؤلاء الأغرمان بعد مائتي سنة من مقدمهم إلى بلاد شنقيط من إقامة سلطة ملكية ذات تنظيم سياسي وعسكري وإداري في حدود 300م، شملت مناطق واسعة من شرق ووسط بلاد شنقيط عاصمتها أودغست ومن حواضرها كونبي وولاته، وعرفت هذه المملكة بمملكة آوكار، وظلت قائمة إلى أن انقسمت (خلال القرن الثاني للهجرة/ 8م) إلى مملكتي غانه السوننكية والأنباط الملثمين الصنهاجية. فكانت من أغرمان السلالة المؤسسة لمملكة غانه ، قبل أن تذوب مع الزمن في العرق السوننكي.
وقد اعتقد دالافوس وعدد من الباحثين الغربيين أن الشعب الأبيض الذي تواطأ المؤرخون على أنه هو مؤسس مملكة غانه كان من يهود برقة البيض ، لعدم عثورهم على ما يفيد بوجود بيض نافذين في المنطقة في ذلك العهد غير اليهود القادمين من برقة، لكن الخوارزمي الذي هو أحد أقدم مراجع العصر الوسيط (تـ236هـ/ 850م) يخبرنا في كتابه "صورة الأرض" أن هذا الشعب الأبيض الذي حكم غانه كان من أغرمنطين ، (الغرامانت في بعض المراجع، وأغرمان في بعضها)، وبهذا الاسم الأخير (أغرمان) الذي نقله المؤرخ المغربي عبد الله العروي عرفوا عند البيضان في بلاد شنقيط، ومعنى عبارة أغرمان الحرفي في اللغة الصنهاجية الرومان الصغار (أغ+رمان) أما مدلولها فأعوان أو عبيد الرومان ، حيث كان الرومان يستخدمونهم في تسيير ومراقبة التجارة الصحراوية (خاصة تجارة الذهب) بين مملكة غانه جنوب الصحراء ومناطق النفوذ الروماني شمالها. وهم بيض كما أكدت ذلك الآثار التي عثر عليها المنقبون الإيطاليون في غرمة عاصمتهم بمنطقة فزان الليبية، لكنهم ليسوا بيضا صرفا، بل كانت سحنتهم مائلة إلى الاحتراق .
وعندما تراجع النفوذ الروماني خلال القرنين الميلاديين الرابع والخامس، قام صنهاجة اللثام الذين يمثل الأنباط عمادهم الأساس بغزو بلاد شنقيط، وطرد أغرمان ومن حولهم من گنگاره (السوننكيين) وبقايا الفاروزيين عن مسالك تجارة الذهب، فلجأ قسم من أغرمان إلى السوننكيين فدخلوا فيهم، وانحازت منهم فئات إلى بافور وإيزگارن وگنار، حيث سيمثل أغرمان إلى جانب بافور وإيزگارن وگنار وگدالة وقبائل صنهاجية مختلفة مكونا رئيسيا من مكونات شعب الوولوف الذي يعود اسمه إلى اسم قبيلة صنهاجية شنقيطية تدعى أولف ما تزال بقاياها تتواجد حتى اليوم على التخوم الشرقية الشمالية لبلاد شنقيط.
وساعد الجمل قبائل صنهاجة على تذليل الصحراء الشنقيطية التي سرعان ما أصبحوا سادتها، وتقاسموا أهم ثرواتها وهي الملح، كما تقاسموا إقليمها وخفارة القوافل التي تخترقها، فكانت جهة المحيط الأطلسي غربا لگدالة، حيث مملحة آوليل، وكانت جهة الوسط للمتونة حيث مملحة ودان (مملحة الجل)، بينما كانت جهة الشرق لمسوفة حيث مملحة تغازه (=تاتنتال) التي كان ملحها يجلب إلى ولاته، وإن كانت لمتونة ما لبثت أن تخلت بعدما تمكنت من احتلال أودغست لانشغالها بخفارة تجارة ذهب السودان عن مملحة وادن لصالح شقيقتها مسوفه.
ونظرا لأهمية الملح الذي يكاد ينافس الذهب في تجارة الصحراء، فقد غدت هذه القبائل الصنهاجية الثلاث من أثرى وأعظم قبائل صنهاجة، وتوسعت مراكزها التجارية لتسويق الملح (آوليل، ودان، ولاته) حتى أصبحت مدنا عريقة باستثناء آوليل التي كانت منطقة شاطئية غير صالحة للتمدن. وكان لكل مركز ملح من هذه المراكز مسالكه التجارية التي تؤدي إليه، وقوافل التجار التي تتزود منه، والقبيلة الصنهاجية التي ترعاه.
وترجع تسميات آوليل وودان وولاته إلى معنى واحد، فودان –كما قدمنا في "حفريات جديدة في تاريخ ودان"- تفصيح لكلمة وجان التي أصلها أولان، كما أشار إليه العلامة الأخباري الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي في كتابه "الرسالة الغلاوية حيث يقول ": «ودان كلمة صنهاجية أصلها "أولان"»، واللام التي ذكر الشيخ سيدي محمد أنها تمثل أصل دال ودان، ترجع في صوتيات اللسان الصنهاجي إلى جيم معقودة مشوبة بالشين، حيث كثيرا ما تتعاقب مع هذه الجيم، فالفقيه مثلا تتحول إلى أشفغ في الصنهاجية، وملكة الوالو التي تدعي لينگار كان الصنهاجيون يسمونها ابجنگار، كما هو في شيم الزوايا للعلامة المؤرخ محمد اليدالي، وهكذا. وقد ساق العلامة الأديب امحمد ابن أحمد يوره في كتابه في تاريخ الآبار عدة أمثلة على ذلك منها: "ترتلاس" التي قال عن أصلها إنه "ترتج أسن"، و"آگويليل" التي قال إن أصلها "أگوجج"، و"انويلوط" قال إن أصله "أنوجظ"، و"تنيافيل" قال إن أصله "تنيفأج"، و"آگلال" قال إن أصله "آگجج"، و"تنياشل" قال إن أصله "تنياشج". ومثل هذه الكلمات أولان التي أصلها أوجان (=ودان).
ويذكر الشيخ سيدي محمد الكنتي في الرسالة الغلاوية أن «معنى "أولان" (=ودان): ذو الملاحس أي الذي يأوي إليه الوحش من سباخ النطرون»، وهو الملح المعدني الذي كان ودان يمثل سوقا له، فمعنى كلمة ودان: "أرض الملح".
ومثل ودان (=أوجان) "آوليل"، فأصل كلمة آوليل "أوججان" (جمع كلمة "أوجان" =ودان) أي أراضي الملح.
ومثل ذلك ولاته التي هي تفصيح لكلمة "إيولاتن"، وأصلها "إيوجاتن" ومعناها صاحبة الملح، أي أرض الملح، فالمناطق الثلاث تحمل ذات المدلول، لأن كلا منها كانت تمثل مركزا تجاريا شديد الأهمية لمادة الملح الثمينة في تلك العصور.
وهناك من يقول إن أصل كلمة ولاته سفح الجبل أو ظل الجبل (يريد سفح الجبل المحاذي للمدينة) ولعله من باب تسمية الشيء باسم محله، فربما كان ذلك السفح هو مستودع عدائل الملح القادمة إليه من مملحة تغازه، أو حتى من ودان أو آوليل عبر أودغست، فقد تميزت ولاته بكونها كانت تمثل بوابة العمالات الشرقية والجنوبية الشرقية من بلاد السودان بالنسبة لبلاد شنقيط، وبالتالي نقطة تصريف مهمة للملح الصحراوي باتجاه بلاد السودان.
وكانت ولاته كذلك تعرف ببيرو وليس هو اسما سابقا لتسميتها بولاتة كما يظن البعض، بل هو من الأسماء المترادفة لها، حيث كانت مدن التلاقي الثقافي تحمل اسمين أحدهما سودانيا والآخر صنهاجيا كما هو حال أزوگي التي كانت تعرف كذلك بكوگدم.
وخلال العهد الصنهاجي الذي تميز بانهيار مملكة آوكار، وتمكن الأنباط من إقامة مملكة في البلاد التي عرفت في المراجع الوسيطة ببلاد النبية (بلاد الأنباط) عاصمتها أودغست، انتشرت قبائل صناجية مختلفة في الصحراء الشنقيطة ودخلت في حروب كر وفر لا تنتهي مع القبائل السوننكية- الأغرمانية الذين انتظموا في مملكة غانه واتخذوا من كونبي عاصمة لهم. ثم تمكنوا في أواخر القرن الرابع للهجرة (10م) من التوسع على حساب الأنباط وطردهم من أودغست وولاته ومعظم منطقة آوكار وتگانت.
وبعد قيام دولة المرابطين منتصف القرن الخامس الهجري (القرن 11م) استعاد الملثمون قوتهم وعادوا إلى مهاجمة السوننكيين فأخذت مملكة غانه تتقلص من الشمال تحت وقع هجماتهم واستعادوا أودغست، وتكاتف التكرور الذين اعتنقوا الإسلام قبل قيام دولة المرابطين معهم على فتح غانه، حتى أمست الامبراطورية الغانية مجرد مملكة سوننكية صغيرة بعد دك المرابطين لمعقلها الجنوبي جني سنة 469هـ/ 1076م.
ولم يحل القرن السادس الهجري (12م) حتى كان آل صالح، الذين ينتمون إلى الحسن بن علي بن أبي طالب يحكمون عاصمة غانه الأولى كونبي التي أصبحت بفضل حكمهم لها تدعى كونبي صالح .
وظل هذا القسم من غانه تحت أيدي آل صالح حتى سنة 601هـ/ 1203م حيث تمكن الصوصو بزعامة سومانگورو كانتي من ضم غانه إلى بلادهم، واحتلال كونبي صالح، فصارت تابعة لهم، ثم تمكن قائد قبائل الماندينگ سوندياتا كيتا من هزيمة الصوصو وإلحاق غانه بامبراطورية مالي.
وخلال حروب استيلاء الصوصو على المدينة انتقلت العائلات الثرية من السوننكيين وجاليات العرب التي كانت في كونبي صالح إلى ولاته التي كانت في ذلك الوقت شبه خالية إلا من شظايا صنهاجية مسوفية في أغلبها سنة 625هـ/ 1224م .
واستعادت ولاته حيويتها وآوت إليها بقايا جاليات السكان القديمة التي كانت تنتشر بين أودغست وآبير وكونبي صالح منذ عهد مملكة غانه، من الأغرمانيين والسوننكيين المتهودين في أغلبهم، وفيهم بعض اليهود البيض، وأوزاع أخرى من البربر الزناتيين، ثم قدم إليها المحاجيب الذين نزلوا توات سنة 675هـ/ 1276م ، وانتقلوا منها إلى ولاته فكانوا أول من نزلها من البيضان ، وأول من جعلها منارة علمية وثقافية من أهلها.
ويروي ابن انبوجه العلوي أن يحيى -جد المحاجيب- قدم إلى ولاته وأهلها في ذلك العهد يهود ففتحها بالحكمة الإلهية . وقال الطالب أبو بكر المحجوبي إن جده الأعلى يحيى الكامل قدم إلى ولاته ومعه ابنه محمد وأخرجا منها أهلها بالقهر الرباني فكانت أرضها لهما ولبنيهما من بعدهما . ويقال أيضا إن يحيى كان بالعراق مع الشيخ عبد القادر الجيلاني (القرن السادس الهجري/ 12م) قبل وصوله إلى ولاته عبر توات.
وازدهرت ولاته خلال القرنين السابع والثامن للهجرة (13/14م) ازدهارا كبيرا، بعدما أصبحت مركز تبادل كبير للقوافل، واحتفلت بمرور الامبراطور المالي العظيم المنسا موسى بها في طريقه إلى الحج عام 725هـ/ 1324م، حاملا معه كما هائلا من الذهب بهر به مؤرخي المشرق الذين كتبوا عن حجته .
وفي عام 737هـ/ 1336م احتل الامبراطور المنسا موسى تنبكتو وألحقها بامبراطوريته وبنى بها دارا للسلطنة، وألحق ولاته بعمالات الامبراطورية، وعين فيها افربا (نائبا) يمثله.
وكانت ولاته إذ ذاك مركزا كبيرا من مراكز القوافل الرئيسة التي تربط بين سجلماسة وتنبكتو، وكانت مزدهرة غاية الازدهار، فنزلها عبد الواحد وعلي ابنا عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي بن داود المقري وأسسا فيها مع إخوتهما شركة تجارية كبرى سيطرت على محور ولاته تلمسان مرورا بسجلماسة، كما ذكر ابن الخطيب الذي قال بأن «أبا بكر بن يحيى المقرى وإخوته اشتهروا بالتجارة، فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار، واتخذوا طبل الرحيل، وراية التقدم عند المسير، فكان أبو بكر وأخوه محمد بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي وهما شقيقاهما الصغيران، بإيوالاتن [ولاته] فاتخذوا هذه الأقطار والحوائط والديار، وتزوجوا النساء، واستولدوا الإماء. وكان التملساني يبعث إلى الصحراوي [بولاته] بما يرسم له من السلع، ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الرجحان والخسران، ويكاتبهما بأحوال التجار، وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الفخامة أحوالهم ».
وفي هذه الفترة انتشرت لهجة أزير التي أصبحت مجرد لهجة مختلطة مولدة من السوننكية والصنهاجية في الحوض وتگانت وآدرار خلال الهيمنة المالية على المنطقة، وظلت هذه اللهجة معروفة في بلاد شنقيط إلى عهد قريب. وأزير نسبة إلى آجر مجموعة صنهاجية قديمة تنضاف إلى الدولة الزيرية الصنهاجية التي حكمت تونس في عهد الفاطميين، اندرجت في مسوفة واستوطنت بلاد السودان، ونسب موطنها زاره إليها.
وبعد وفاة المنسا موسى حكم ابنه ميگا (738هـ/ 742هـ- 1337/ 1341م) فاضطربت في عهده أحوال المملكة. وتحررت جل مناطق بلاد شنقيط من هيمنة المملكة المالية، فكان في ذلك فرصة لمحلات المرابطين الهوگارية والتندغية التي كانت تقيم على الأطراف الشمالية لبلاد شنقيط، وتسابقت في تنافس حاد على خفارة القوافل المتجهة إلى الامبراطورية المالية، وبسط النفوذ على التجمعات الأغرمانية والإيزگارنية وغيرها من أصناف البربر والسودان المتناثرة في البلاد، وفرض الإتاوات عليها مقابل حمايتها.
ثم توفي المنسا ميگا فخلفه عمه المنسا سليمان فحاول استرجاع گاوه التي فقدت في عهد سلفه فلم يستطع، فتركها وانكب على إصلاح ما فسد في الداخل، واهتم كثيرا بالعلم لأنه كان فقيها، واشتهر بالعدل إلى درجة أنه عزل حاكم ولاته لمماطلته أحد تجار مسوفة في دين كان يطالبه به .
وبعد وفاة المنسا سليمان 761هـ/ 1360م جاء ملوك ضعاف قذفوا بالبلاد إلى أتون الفتنة الداخلية، التي استمرت حتى قضى على ملكهم حاكم منطقة السونگاي سني علي التي كانت مجرد ولاية صغيرة تابعة للامبراطورية المالية.
ولما أخذت الامبراطورية في التراجع بعد وفاة المنسا سليمان (761هـ/ 1360م) تمكن حاكم السونگاي سني علي من الخروج على مالي، ثم أخذ في التوسع على حسابها، واستطاع أن يدخل تنبكتو ظافرا.
وكانت تينبكتو قبل سني علي تحت حكم توارگ إيمغشرن الذين كانوا قد تمكنوا من استخلاصها من السلطة المالية لما تراجعت امبراطوريتهم فحكموها عام 837هـ/ 1433م.
وغزا سني علي تنبكتو سنة 872هـ (1468م) فاحتلها ودوخ بواديها، فهرب السلطان أكل أگملول وقبائل التوارگ وصنهاجة وأكثر التجار والعلماء إلى ولاته ونواحيها.
ولم يزل سني علي يوسع مملكته حتى وصل حكمه إلى بلاد التكرور غربا، وإلى ولاته شمالا. واحتل ولاته عام 885هـ (1480م)، بينما وصل حكام مالي الذين لم يبق لهم من امبراطوريتهم إلا رقعة ضيقة إلى حالة يرثى لها من الخيبة والفشل .
وبعد موت سني علي انقلب قائد من قواد جيشه يدعى محمد بن أبي بكر تورى على ابنه داعو بن سني علي. واستولى هذا القائد على إثر معارك طاحنة على گاوه سنة 898هـ/ 1493م، وتلقب بالأسكيا محمد فأصبح أول ملوك السونگاي الأساكية.
وتراجعت بسبب هذه الأحداث القيمة الاقتصادية لولاته، وتحولت عنها أغلب مسالك التجارة شرقا، وانقطعت تبعيتها لسلاطين السودان، وتراجع دورها السياسي والاجتماعي وغادرها أغلب علمائها وأكابرها إلى تنبكتو، في وقت اشرأبت إليها أعناق المحلات الصنهاجية ثم الحسانية الباحثة عن المكوس والمغارم، لكن مرور الشيخ سيدي أحمد البكاي بولاته أوائل القرن العاشر مشرقا، ومطالبة أهل ولاته له بالبقاء معهم وتقلد شؤونهم أعطى ولاته دفعا جديدا، وأهلها لمواصلة احتلال المكانة اللائقة بها علما وعملا، كما تشهد بذلك المصادر التي تحدثت عن ولاته قبل وبعد مقدم الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي، وسنتوقف هنا عند اثنين منهما هما الرحالتان ابن بطوطة قبله والوزان بعده.
ولاته قبل مقدم الشيخ سيدي أحمد البكاي من خلال رحلة ابن بطوطة:
رغم ما اضطلع به المحاجيب منذ مقدمهم إلى ولاته من وظائف دينية، وما كانوا سباقين إليه في ولاته من حمل لواء العلم ونشر المعارف، ورغم محاولتهم نشر الحجاب فيها، فإن المصادر التاريخية اتفقت على أن التقاليد الصنهاجية القديمة لم تزل مسيطرة على سلوك المدينة، وعلى أن عدم الاحتجاب والاختلاط بين الرجال والنساء ظلا القانون السائد في ولاته حتى مقدم الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي مستهل القرن العاشر للهجرة (16م).
ففي عام 753هـ/ 1352م زار الرحالة المشهور ابن بطوطة ولاته وهي في إيالة الامبراطورية المالية آنذاك، فكان مما وصف ساكنتها به قوله: "وشأن هؤلاء القوم عجيب، وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم.. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات، ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك ".
ويؤكد استمرار هذا الوضع حتى زمان الشيخ سيدي أحمد البكاي ما كتبه محمد بن محمد بن علي اللمتوني الذي وصف سلوك المجتمع الصنهاجي في بلاد التكرور عام 898هـ/ 1492م ضمن أسئلة وجهها إلى الإمام السيوطي بقوله: "وعادتهم عدم الحياء عند اجتماعهم بالنساء، وخلوتهم بهن، واللعب بهن، وحديثهن، ورؤيتهن، وكشف زينتهن.. والاختلاط بالنساء الأجانب ". فقد سبقت هذه الأسئلة مقدم الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي بسنوات قليلة.
الشيخ سيدي أحمد البكاي القدوم وإعادة الإحياء:
تجمع المصادر المحلية على أن الشيخ سيدي أحمد البكاي لم يكن شخصا عاديا، بل كان عالما جليلا متبحرا، وشيخا مربيا وقطبا كبيرا على غرار والده الشيخ سيدي محمد الكنتي نزيل فصك الذي كان له تأثير كبير في تاريخ وحضارة هذه البلاد، وكان أقدم مؤسس لمدرسة علمية وروحية معروفة تسلسلت في أحفاده على مدى قرون متطاولة. وقد غادر الشيخ سيدي أحمد البكاي الذي كان يقطن في آدرار وما جاورها من الصحراء، بعدما أسن باتجاه الشرق برسم السياحية كما نقل لنا حفيده العلامة الشيخ سيدي محمد الخليفة في كتابه الطرائف والتلائد عنه إذ يقول: "وقد تواتر عنه وصح أنه لبث مائة عام لم ترقأ دمعته، وذلك من صلاة واحدة فاتته في الجماعة. وكان حيا رضي الله عنه سنة إحدى عشرة وتسعمائة (911هـ)، ذكر سيدي أحمد بن الحاج عبد الله بن سيدي أحمد بن الرگاد أنه رأى وثيقة بخط يده كتبها في نخل اشتراه في شنقيط في العام المذكور (...).
وتواتر أنه لما قدم ولاته نزل بشعب من شعابها خارج القرية، وكانت يومئذ كثيرة السباع والنمور لا يدب خارجها بعد العصر حيوان إلا أكلته، فأتوه وهم لا يعرفونه، فقالوا أيها الشيخ إذا بت ههنا أكلتك السباع، فإنها تختطف الناس من خلال بيوت القرية جهارا. فقال: ما كان الله ليسلطها علي. فلما كان الليل اجتمعت السباع كلها عليه للتبرك، فلما أصبحوا وقد تيقنوا أنه يؤكل ذهبوا إليه فإذا السباع مجتمعة عنده تتمسح بثيابه، فرأوا ما لم يحتسبوا، فقالوا: ما هذا إلا ولي من أولياء الله تعالى، فتهيبوا الإقدام عليه لكثرة ما حوله من السباع، فأشار إليهم أن تقدموا فإنه لا خوف عليكم، فأتوه يمشون بين السباع وهي رابضة، فقال لهم: ما تريدون من هذه السباع آمرها به؟ فقالوا: نريد أن تأمرها بالخروج عن بلادنا هذه، فأمرها بذلك فانصرفت إلى أرض غانه كالبقر الصادر يتبع بعضها بعضا "، فكان بذلك كجده عقبة بن نافع الذي لما أراد أن يبني مدينة القيروان بإفريقية (تونس) لجيش الفتح الذي يرافقه، وكانت أرضها مسبعة كثيرة الهوام خاطب سباعها وهوامها قائلا: إنا نازلون فارحلوا، فرحلوا كالبقر الصادر يتبع بعضه بعضا".
"ثم أخذ [الشيخ سيدي أحمد البكاي] في المسير، فقال لهم عالمهم: إنكم ما أتيتم بالحزم في أمركم، يأتيكم ولي مثل هذا من أولياء الله ثم تتركونه يخرج من بلادكم، وقد علمتم ما هي عليه من الفساد وهجران السنة! فقالوا: ومن لنا بإقامته بين أظهرنا وكيف نقدر على رجل أطاعته السباع؟ فقال: تقدرون عليه، قالوا: وبم؟ قال: بالمطالبة بالشرع، فإنه لا يتعاصى على الشرع العزيز، فاتبعوه حتى أدركوه وهي يريد المشرق على رسم السياحة، فقالوا له نحن بالله وبالشرع معك، فلما سمع بذلك سقط لوجهه وكتف يديه وراء ظهره وقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولشرعه.
فرجع معهم إلى القرية فأتوا عالمها فقالوا له: نرافعك إلى هذا العالم، فقال: رضيت، فقال له العالم: الأمر ظاهر، هذه مدينة فاسدة قد بلغ فيها الفساد الغاية حتى إن الرجل لا يتمكن من منع زوجته من خدن السوء، فقال: لا إلا بشرط ألا تخالفوني في ما آمركم به من أمر الله تعالى وما جاء به رسوله، فأجابوه إلى ذلك فأمرهم بالحجاب ففعلوا، وألا يدخل أحد بيت أحد إلا أن يكون محرما منها، فاستقاموا على السنة وأخذوا عليه العلوم، حتى توفي رضي الله عنه ".
قال الشيخ سيدي المختار الكنتي: "ولقد رأيت عند قبره أسدا ولبؤة، فلما قربا مني حادت الأنثى عني وأتاني الذكر فقال لي: لم يبق من السباع التي تبركت بجدك هذا إلا أنا وهذه! فلا أدري أهما من نسل تلك أو بقيا حيين حتى أتياني، والله تعالى قادر على الجميع ".
ولاته بعد الشيخ سيدي أحمد البكاي من خلال رحة الوزان:
وبعد وفاة الشيخ سيدي أحمد البكاي بولاته سنة 920هـ/ 1514م، يصف الرحالة المغربي حسن الوزان المشهور بليون آفريكان الذي زار المنطقة بين 926هـ/ 932هـ- 1520م/ 1525م رجال ونساء ولاته بأنهم أصبحوا يتلثمون ويغطون وجوههم، يقول الوزان: ولاته «مملكة صغيرة خاملة بالنسبة لسائر ممالك السودان، فليس بها من الأماكن المسكونة سوى ثلاث قرى كبيرة وأخصاص متفرقة بين حدائق النخل.. ونمط معيشة أهل ولاته كنمط وعادات جيرانهم القاطنين بالصحراءه.. ومن عادة النساء والرجال أن يتلثموا ويغطوا وجوههم. ولا يوجد في هذه الناحية أي تنظيم متحضر، فلا حاشية ولا قضاة، ويعيش القوم في البؤس الشديد ».
ويؤكد الرحالة الإسباني مارمول كربخال الذي كتب عن رحلته إلى الصحراء سنة 979هـ/ 1571ما قاله الوزان عن ولاته حرفا بحرف مقدما بعض الإضافات قائلا: ولاته «مملكة بربرية صحراوية تتاخم غينيا جنوبا، وتقابل صنهاجة شمالا.. ويتلثم رجال ونساء هذه القبائل.. ولا يوجد في مملكة ولاته إلا ثلاث قرى.. وفي عهد الملك سني علي تحول محور المعاملات التجارية إلى گاوه وتنبكتو فأصبحت مملكة ولاته أكثر فقرا مما كانت عليه ».
وهكذا يتضح أن الشيخ سيدي أحمد البكاي أضاف إضافة نوعية لمدينة ولاته، كان لها أثر بالغ في تهذيب سلوك المجتمع، وإحياء النهضة العلمية والروحية فيها، فقد تلقى عنه كما تفيد الروايات العديد من أعلامها العلم والتصوف، وكانت لهم معهم قصة أخرى بعد موته رضي الله عنه لا تقل شأنا عن قصته معهم في حياته، فقد روى الشيخ سيدي المختار الكنتي عن "الفقيه محمد اند عبد الله الولاتي، قال حدثه أبوه الفقيه محمد بن الفقيه أحمد عن أبيه الفقيه أحمد، عن جده سيدي عبد الرحمن المحجوبي، وكان تقطب أنه أخذ العلم والولاية عن القطب الكامل سيدي أحمد البكاي، وأنه لما انتقل السودان من ولاته إلى غانه صار موضع البلدة مسيلا للمياه، وكان ضريح سيدي أحمد البكاي على حافة جرف الوادي بحيث لو جرى السيل لجرفه، فانقطع السيل عن الوادي، حتى غارت الأحساء التي ببطحاء السيل، حتى هم أهل القرية بالجلاء، فأتى سيدي أحمد البكاي في النوم بعض الأولياء من ذرية سيدي عبد الرحمن المحجوبي فقال له: إن أردتم أن يسيل واديكم فانقلوني عن مجرى السيل، فإنه لا ينبغي للسيل أن يمر بقبري، ثم أتى ثانيا في نومه وقال له مثل ذلك، ثم ثالثا فقال له مثل ذلك، فأخبر الناس بما رأى، فقال الثاني: وأنا رأيت نحو ما رأيت، فقال الثالث: وأنا أيضا رأيت نحو ما رأيتما! فاجتمع أعيان البلدة وكان بولاته يومئذ سبعون عالما متفننا، فاجتمع رأيهم على أن الأولياء لا تعدو الأرض على أجسادهم، فذهبوا إليه ونبشوه فإذا هو كالنائم لم يتغير شيء من أكفانه فضلا عن جسده، فأدخل رجل منهم يده بين وجهه والكفن فإذا عيناه تهملان بالدموع كما كان في دار الدنيا، فنقلوه إلى موضعه الذي هو به الآن .
ويستطرد الشيخ سيدي محمد في الطرائف والتلائد متحدثا عن أهل ولاته بعد مقدم هذا القطب الجليل إليهم قائلا: "وأكرمهم الله من يومئذ بغزارة العلم وحدة الفهم إلى يومنا هذا، وكان لا يؤذيهم أحد من الأعراب إلا أذهب الله دولته، ونفاه من أرضهم ".
ومعروف عن ولاته أنها كانت السباقة في مجال الشعر الشنقيطي كما يظهر من استقراء كتاب فتح الشكور للبرتلي، كما كانت من أبرز العواصم الثقافية الشنقيطية، استفاد منها كل السودان الغربي، وأثرت في مرحلة من المراحل تنبكتو، وأغنت تراث البلاد بالمكتبات والمعارف، كما أغناها الأشراف الذين توافدو إليها في نزحات متفاوتة وأضافوا لها إضافات علمية كبيرة، وكان منهم ومن غيرهم عدد من العلماء الأجلاء من مختلف القبائل، ترجم البرتلي صاحب فتح الشكور ومكمله المحجوبي صاحب منح الرب الغفور اللذين كان لذويهما حضور علمي بارز في ولاته لعدد كبير منهم، ومن أشهر العلماء الذين رفعوا شأن ولاته قديما قائد ركب الحج الولاتي العلامة الحاج أحمد بن الحاج الأمين الغلاوي، وحديثا علامة ولاته بل علامة الصحراء كلها محمد يحي الولاتي الذي طبقت شهرته المغرب والمشرق معا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الناني بن الحسين، موريتانيا من عهد غانه إلى المرابطين، ص7-35.
بوبه بن محمد نافع وروبير فيرني، الأركيولوجيا الموريتانية في متحف انواكشوط، ص8.
الناني بن الحسين، موريتانيا من عهد غانه إلى المرابطين، ص7. وانظر أيضا، شارل ءاندري جوليان، ص72.
الناني بن الحسين، صحراء الملثمين، ص52.
المرجع نفسه، ص53.
سيدي عبد الله بن المحبوبي وبباه محمد ناصر، المجال والسكان، موريتانيا الثقافة والدولة والمجتمع، ص13-31.
الناني بن الحسين، صحراء الملثمين، ص52.
المختار بن حامدٌ، موسوعة حياة موريتانيا، الجزء السياسي، ص62.
كما ذكر الخوارزمي، وسيأتي تخريجه قريبا.
محمد بن عبد المنعم الحميري، ص97.
أحمد مولود بن أيده، الصحراء الكبرى مدن وقصور، دار المعرفة، الجزائر، 2009، ص107.
فرج محمود فرج، أضواء على إقليم توات في القرنين 18-19، ص23.
المختار بن حامدٌ، موسوعة حياة موريتانيا، جزء المحاجيب، مرقون، ص5.
رحال بوبريك، التاريخ الاجتماعي لولاته، ص13.
المرجع نفسه، ص14.
المرجع نفسه، ص72.
ابن الخطيب، الإحاطة في تاريخ غرناطة، ط1، مطبعة السعادة، مصر، 1952، ص178.
قدم ابن بطوطة الذي نقل هذه الحادثة إلى ولاته عام 753هـ/ 1352م، وافاربا (نائب) السلطان المالي بها في تلك الفترة يدعى حسين، وقاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر وأخوه الفقيه يحيى هو المدرس بها. ابن بطوطة، ص688.
محمد الغربي، بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1982، ص55.
ابن بطوطة، الرحلة، ص688.
السيوطي، الحاوي للفتاوي.
الشيخ سيدي محمد الخليفة، الطرائف والتلائد، تحقيق يحيى ولد سيدي أحمد، دار المعرفة، الجزائر، 2011، الجزء 1، ص275-278.
المرجع نفسه، ص275-278.
المرجع نفسه، ص275-278.
رحلة الوزان، ص161-162.
مارمول، ص198 بتصرف يسير.
الطرائف والتلائد، ص276.
المرجع نفسه، ص275-278.